27 نيسان 2024 الساعة 02:19

غزة: عزيز.. فينيق فلسطيني ينهض من تحت الركام

2021-05-31 عدد القراءات : 888
غزة (خاص الاتجاه الديمقراطي) (تقرير سنابل الغول)
ظلام دامس خيّم على المدينة نتيجة لانقطاع التيار الكهربائي تبعه هدوء حذِر ساد لبُرهة من الوقت بعد ساعات طويلة من القصف المتواصل في اليوم السابع على التوالي للعدوان الذي شنه الاحتلال الإسرائيلي على مدينة غزة، والذي لم يميز بين إنسان أو حجر او شجر حتى الحيوانات لم تنجُ من بربريته .
لتدوي على حين غفلة أصوات الانفجارات من كل حدبٍ وصوبٍ مصحوبة بهزات أرضية تزلزل البيوت تحت أقدام أصحابها، ووميض من النيران تخبو وتشتعل في السماء جراء القذائف والصواريخ التي يطلقها الاحتلال، فأصبح القطاع كمدينة أشباح مظلمة تتعالى فيها أصوات انفجارات عنيفة يتبعها صرخات وعويل تهتز على إثره الجوارح، وتبلغ بها القلوب الحناجر من هول ما تسمع،  الجميع في حالة ترقب لحتفه، فرائحة الموت تفوح بكل مكان، أجسادهم تهتز من الضربات تارة ومن الفزع تارة أخرى، فما من شيء أقسى على المرء من أن يُساق إلى الموت وهو بين جدران بيته وفي أحضان ذويه !
 فعلى حين غفلة تتحول البيوت الآمنة لقبرٍ موحش لا يُسمع فيه سوى حسيس شهقات ألم مصحوبة بزفير متقطع تحت ثقل الركام قبل أن تختفي الأنفاس رويداً رويداً معلنة نهاية ورحيل أصحابها !
تلك النهاية حملت في جوفها هول عظيم ودقائق عصيبة كان الانتظار فيها عن ألف سنة، ألقت بثقل بشاعتها على جدران قلب عزيز الكولك ابن العشرة أعوام،  والناجي الوحيد من تحت أنقاض بيته الذي قصفه الاحتلال على رؤوسهم وسط مدينة غزة دونما سابق إنذار، لتُباد على إثره عائلته بالكامل ويبقى هو حيّ بجسده فقط، شاهد على مجزرة مجحفة سحقت معها أمانه وآماله بالغد وطمأنينته في الحياة وذرته وحيد يصارع بِروحٍ شوهتها الذئاب الصهيونية .

 
كانت الصدمة تعتلي ملامح عزيز وهو يروي لحظاته الأخيرة مع عائلته، قبل أن تغدر بمسالمتهم صواريخ الاحتلال وبصوت مرتجف قال: «عندما بدأ القصف جلست مع عائلتي، أبي على يميني يحتضن شقيقي زيد وأمي على يساري وبين أحضانها شقيقي الآخر آدم وأنا في المنتصف، يحاولان حمايتي».
وعندما اشتدت وتيرة القصف عبر عن تلك اللحظة قائلاً : « ماما وبابا  قرّبوا كتير عليا ونزل السقف علينا، حكيت لبابا «نلنا الشهادة يا بابا»».
واستكمل حديثه بقلبه المفطور المكلوم على فراق والديه سنده وبركة أيامه ، قائلاً :«رأيت رأس أمي وأبي ينزفان من إصابتهم بحجارة البيت وكنت أسمع تكبيرات أمي، رأيتهما ينزفان حتى الموت».
لم يشعر عزيز بوحشة وظلمة المكان في بادئ الأمر، فأنفاس والديه كانتا تُربّتان على قلبه وتطمئنانه وتكبيرات أمه، الحنّان ملاذ الخائفين هوّنت عليه هول اللحظات الثقيلة، ولكن تلك السكينة لم تدُم طويلاً، عقبما سكنت أنفاسهم وتلاشى صوت تكبيرات أمه تحت الركام شيئاً فشيئاً مُنذرة ابن العشرة أعوام، بأن الفراق قد حان ! ليسود بعدها صمت موحش مخيف، ظل فيه الطفل مدة عشر ساعات يتأمل جثث عائلته التي أُبيدت بلا رحمة !
عشر ساعات بدقائقها وثوانيها قضاها تحت الركام في ليلة حالكة مظلمة وأصوات الطائرات والقذائف لم تتوقف عن ضرب مدينة غزة التي كانت تتساقط عليها كحمم بركانية تدمر وتحرق كل من عليها دون تمييز!
عشر ساعات والطفل ذو العشر سنوات بين غياهب ظلمات الركام يصرخ ويستغيث أنه على قيد الحياة، علّ أحد يسمع صوته المختنق وسط قوة الانفجارات وينتشله من أعماق الحجارة التي أثقلت جسده الغض الصغير وينقذوا ما تبقى منه !
فانتشلوه من تحت الأنقاض بعد مرور عشر ساعات قضاهن بين رفات أحبابه ، فعاش العزيز ليشهد دفن جميع أفراد عائلته الذي سيظل هول المشهد العظيم لكابوس تفاصيل وداعهم ملتصقاً بذاكرته طيلة حياته !
عزيز هو واحد من بين آلاف الأطفال الفلسطينيين في غزة المدينة المُبادة داخل كوكب أموات والذين استنزف الاحتلال طاقات أعمارهم عبثاً، وأثقل كاهلهم بهموم مبكرة شاخت عبرها قلوبهم قبل أوانها.
يحيون مبتوري الروح، مؤودي الأحلام ، منعدمي العافية وسط وابل من سياط الظلم والخوف والقتل والدمار الذي يلحقه بهم وبأحبابهم دونما رحمة، يصرخون ولم يهتز العالم لما يُكابدونه من مجازر ترفضها كل الإنسانية والأعراف والقوانين الدولية.
لم يكن ذنبهم سوى أنهم فلسطينيين وُلدوا في خضم غمار ملحمة تطهير عرقية ينتهجها الاحتلال الإسرائيلي منذ أن وطئت قدميه أرض فلسطين السلام التي لم تر من لحظة احتلاهم لها أي سلام !
جاء ذلك العدوان الإسرائيلي الذي استمر لمدة أحد عشر يوماً بعدما انتفض أهل غزة لمقدساتهم وانتهاكات المستوطنين في المسجد الأقصى وتهديدات الإبعاد القسري لأهالي حي الشيخ جراح عن بيوتهم.
ارتكب الاحتلال في غضون ذاك العدوان كماً هائلاً من المجازر البشعة بحق المدنيين الآمنين في غزة التي راح ضحيتها 254 شهيداً، بينهم  66 طفلاً و 39 سيدة و17 مسناً، بالإضافة إلى 1948 إصابة بجراح مختلفة، ناهيك عن تدمير البنى التحتية والمنشآت والمؤسسات حتى الطرقات طالها القصف والدمار، ليسحقوا معها ملايين الذكريات والحكايا الملتصقة بحجارتها والشاهدة على إخفاقات وعثرات ونجاحات أهالي هذه المدينة المخذولة الجبارة الأبيّة التي تنسج ثوب الحياة من رماد احتراقها لتنهض بكل عزة وشموخ، فهي لا تعرف درب الانكسار■

أضف تعليق