27 نيسان 2024 الساعة 01:02

الدولة على الارض.. ودولة الوهم

2018-03-28 عدد القراءات : 1129
عام آخر يمضي على مناسبة "يوم الارض"، تلك المناسبة التي عبرت فيها جماهير شعبنا الفلسطيني عن وقوفها بإرادة واحدة دفاعا عن أرضها، وتصدت لمخططات الاحتلال في الاستيلاء على الارض، والسيطرة على منا تبقى منها وطرد أصحابها الشرعيين منها. تصدت جماهير شعبنا بوحدتها وصلابتها وأجسادها لمخطط الاحتلال عام 1976 للسيطرة على آلاف الدونمات من اراضي الجليل شمال فلسطين.، وأدى ذلك الى سقوط عدد من الشهداء الذين تحولت دمائهم الى رمز من رموز التضحية والفداء من أجل الوطن، وذكرى استشهادهم الى مناسبة سنوية ورمز من رموز التمسك بالأرض والصمود فيها.
دون التقليل من أهمية المناسبة ومضمونها الرمزي، ودون التقليل أيضا من حجم العمل والتضحيات والنضالات التي خاضها شعبنا على امتداد السنوات الطويلة منذ العام 1976 وقبله فإن هناك العديد من الاسئلة التي تكرر نفسها ويتداولها المواطن العادي، لعل اهمها هو السؤال: هل تكفينا الشعارات بعد اثنين وثلاثون عام على مناسبة يوم الأرض؟!
لعل من البديهي ان يمر هذا السؤال في ذهن كل مواطن فلسطيني. فالمواطن الفلسطيني الذي لا يزال يعيش على أي بقعة من ارض فلسطين التاريخية لا يزال يشاهد بأم عينيه يومياً حجم وطبيعة التغييرات التي تجري على أرض وطنه. وكيف تتوسع المستوطنات القائمة خاصة في الاراضي العربية المحتلة عام 1967 بما فيها القدس من ناحية العدد والمساحة وعدد المستوطنين. وتشير أحدث الإحصائيات أن عددهم قارب المليون مستوطن. هذا فضلاً عن سيطرة هذه المستوطنات على مساحات واسعة جداً من الأراضي التي تعتبر من أخصب الاراضي الزراعية في فلسطين، وكذلك السيطرة على نسبة كبيرة  من أغنى احواض ومصادر المياه، وكذلك بالنسبة لفتح الطرق الجديدة، والتحكم والسيطرة على محاور التنقل والحركة ليس فقط بين مدن الضفة الغربية المختلفة، بل أحياناً السيطرة على محاور الحركة بين المدن والقرى والمخيمات في كل محافظة من محافظات الوطن، وتجزئتها الى ما يشبه "الكانتونات".
وعودة الى التاريخ في السنوات التي تلت حادثة يوم الأرض حيث أتذكر كيف كنا كأطفال نلتقط أحاديث الأكبر من سناً خلال تداولهم لأخبار المستوطنين، ووصفهم لهم ملابسهم، وشعر الرأس الطويل الذي يتدلى على جانبي الاذنين خاصة ، والقبعة الصغيرة على رؤوسهم... وغيرها من الملامح التي كان البعض يسهب في سرد تفاصيلها لمستوطنين شاهدهم بعينه، أو سمع من آخرين عن مشاهدتهم حين قدموا لزيارة مكان ما في إحدى التلال والجبال القريبة، والطقوس التي كانوا يقومون بها خلال ذلك. في ذلك الحين لم يتاح لغالبيتنا مشاهدتهم عن قرب.
في السنوات اللاحقة ساقتني ظروف الدراسة ثم العمل  للتنقل الدائم خاصة بين مدينتي نابلس ورام الله. وأستطيع الآن أن أتخيل حجم التغييرات التي حصلت منذ ذلك الحين، سواء من ناحية إقامة وتوسيع المستوطنات على طول التلال على جانبي هذه الطريق التي يقارب طولها الخمسين كليو متراً. وكذلك من ناحية تحول المستوطنين من مجرد صورة خيالية يرسمها أحدهم بكلماته ويطلق العنان لنفسه وخيالنا في تصور تفاصيلها، الى بشر على أرض الواقع نراهم بالعشرات والمئات يومياً على الطرقات، وفي محطات الانتظار على محاور الطرق الرئيسية، على الحواجز وعلى اطراف القرى والتجمعات السكنية وهم يلاحقون المزارعين، يحطمون أشجارهم ويهاجمون مواشيهم ويحرقون محاصيلهم الزراعية ويلتهمون بآلياتهم المزيد من الأرض، يقيمون الجدران والأسيجة وينصبون نقاط الحراسة وكاميرات المراقبة. وفي تلك الجبال التي لم يكن منا يستطيع الوصول اليها حتى مشياً على الأقدام كانوا يبنون البيوت الصغيرة الجميلة، والمزارع التي نراهم يقطفون ثمارها من الخضروات والفواكه. وحتى الجبال الواسعة حول مستوطناتهم حولوها الى مناطق مغلقة ومحميات طبيعية يصعب علينا كفلسطينيين دخولها والتجول فيها.
كنت قبل عدة أسابيع مع مجموعة من الاصدقاء نتجول مشياً على الأقدام في منطقة جبلية  في الأغوار الشمالية وهي منطقة ذات إطلالة واسعة على الحدود الشرقية المطلة على نهر الاردن، لاحظنا على رأس إحدى التلال البعيدة بعض البنايات المتنقلة، اعتقدنا أنها ربما لبعض رعاة الأغنام الفلسطينيين الذين يقيمون في تلك المناطق لرعاية الماشية، لكن فوجئنا حين اقتربنا بمستوطن لا يتجاوز عمره ستة عشر عاماً يلاقينا ليسألنا بصورة استفزازية عما نفعل في تلك المنطقة، ثم تبعه آخر يحمل سلاحاً بيده وعلى جانبه قطعة سلاح أخرى، وطلب منا مغادرة المنطقة، وعدم الاقتراب من تلك التلال الواسعة.
تمر في ذاكرتي كل هذه الصور وأنا أحاول ان أستعرض مدى جاهزيتنا واستعداداتنا "للاحتفال" بمناسبة يوم الأرض. ومرة أخرى أترحم على كل الشهداء الذين سقطوا دفاعاً عن كل شبر من هذه الأرض، والجرحى والمعتقلين والاسرى والمبعدين والمناضلين الذين ما زالوا على عهدهم في التمسك بهذه الأرض والدفاع عنها. لكنني في نفس الوقت لا اتمكن من تجاهل الصورة من وجهها الآخر. ولتعذروني على ذلك. اعتقد ان غالبيتنا مللنا من ذلك "الخطاب" الذي لا ولم ولن يغني أو يسمن من جوع كما يقولون. ذلك الخطاب الذي يحشد كل مفردات اللغة وفصاحتها وقوة تعبيرها في هذه المناسبة، ويرتفع، ويرفعنا الى عنان السماء في القول والوعود والعهود على الاستمرار والصمود والإصرار وغيرها من المعاني، ثم ما يلبث في اليوم التالي ان يتبخر على أرض الواقع، ويتركنا نواجه تحديات الارض والصمود فيها بدون أن يكلف نفسه حتى عناء جولة واحدة في تلك الأرض لفهم معاني ومتطلبات الصمود فيها. هذا إن لم نقل في أحيان عديدة تفريغ معنى هذا الصمود من كل مقومات وجوده.
عايشت على امتداد أكثر من عام مضى قصة احد الأصدقاء ونضاله من اجل استصلاح أرض له على أطراف بلدته وبناء بيت صغير فيها. كان عليه دفع عدة آلاف من الدولارات بدل رسم "الترخيص" للهيئات والمؤسسات المحلية المختلفة، لكنها لم تنعكس اطلاقاً على أية تسهيلات أو خدمات حصل عليها بالمقابل من تلك الهيئات، وكان عليه لاحقاً ان يدفع تكاليف تمديدات المياه والكهرباء والهاتف وحتى فتح الطريق الترابي الموصل الى تلك الأرض. وبدون مبالغة فقد دفع صديقنا تقريباً نصف تكلفة البناء بدل ايصال خدمات "البنية التحية" لذلك المنزل. ليس هذا فحسب، بل يتم تذييل معاملة "الترخيص" نفسها بعبارة تفيد أن الجهة التي قامت بالترخيص غير مسئولة عن أية أعمال أو منع أو هدم يقوم بها "الطرف الآخر" خاصة في منطقة (C).
على الطرف المقابل نرى انه بمجرد قيام مجموعة من المستوطنين بوضع بيت أو عدة بيوت متنقلة فانه سرعان ما يتم تزويدها بكل خدمات البنية التحية والتسهيلات اللازمة، هذا فضلاً عن توفير الحراسة ومتطلباتها. شاهدت بعيني مطلع ثمانيات القرن الماضي هذا الأمر. حيث كنا قد حصلنا بعد نضال جماهيري وقانوني على قرار من "المحكمة العليا" بإخلاء مستوطنة "ايلون موريه" التي أقيمت في حينه على أراضي قريتنا (روجيب) في منطقة نابلس. قامت الطائرات المروحية بعد عدة أيام من قرار المحكمة بنقل البيوت المتنقلة لتلك المستوطنة. واندفع كل سكان القرية والمناطق المجاورة الى المكان الذي كانت اقيمت عليه المستوطنة. شاهدنا جميعاً في حينه أن تلك البيوت المعدودة المتنقلة اقيمت في منطقة تم تحضيرها مسبقاً وتزويدها بكل خدمات البنية التحية، وكانت أعمدة الكهرباء والهاتف تغطي المنطقة، وكذلك الشارع الموصل اليها وداخلها وتمديدات المياه والصرف الصحي. باختصار كانت كل البنية التحية جاهزة تماماً لمجموعة صغيرة من البيوت المتنقلة للمستوطنين. في ذلك الحين القرية بأكملها لم تكن قد وصلتها خدمات المياه والكهرباء بعد، ناهيك عن أية خدمات أخرى.
كنت انا شخصياً ضمن مجموعة من المزارعين يمتلكون اراضٍ قريبة من المنطقة التي اقيمت عليها تلك المستوطنة، توجهنا الى عدة جهات ومؤسسات رسمية وغير رسمية لتوفير بعض متطلبات استصلاح هذه الأراضي وتشجيرها، وغالباً لم نحصل على أية ردود، اما المرات القليلة التي حصلنا فيها على ردود فكانت كلها تتمحور حول عدم توفر التمويل، في ذات الحين الذي نرى فيه الكثير من الاموال تصرفها هذه الجهات على حملاتها الدعائية والاعلانية التي تدور حول تعزيز الصمود على الارض وغيرها من الشعارات التي يفقد المواطن ثقته فيها شيئاً فشيئاً. وهي التجربة يمكن تعميمها في مختلف الاماكن ببساطة اذا نظرنا للأمور من زاوية النتائج المتحققة، وحجم وطبيعة توزيع العمل على الارض.
وهكذا في الوقت الذي نراهم يشيدون البيوت الجميلة في أعالي التلال والجبال، ويقيمون المصانع والمزارع الانتاجية، ويوفرون كل سبل العيش والراحة لمن يسكنها، ونشاهد اعلاناتهم على جانبي الطرقات التي تشجع المستوطنين وتقدم لهم مختلف أنواع التسهيلات كمنح شراء المسكن وتأسيس المشاريع الانتاجية... وغيرها لجذبهم للسكن في المستوطنات والاستثمار فيها. نستمر نحن في الدوران حول أنفسنا، وتشييد العمارات والكتل الاسمنتية والتنافس ومطاحنة بعضنا البعض في "دونمات" محدودة من الأرض في مراكز المدن والتجمعات الرئيسية. لا يعقل أن يصل سعر "دونم" الارض في مراكز بعض المدن الى عدة ملايين من الدولارات، في حين لا يتمكن مزارعينا وأصحاب الاراضي حتى من الوصول الى مزارعهم على التلال والجبال القريبة بسبب نقص الخدمات والبنية التحية الاساسية. بدون توفير الحوافز المناسبة فإننا سنستمر في زراعة الوهم عاماً بعد عام، فالخطاب لوحده لن يتمكن سوى من بناء وتكريس الأوهام. ومسبقاً لمن يريد الادعاء أن الامكانيات المادية هي السبب أود القول أن ذلك غير دقيق، لأننا لا نعدم مثل هذه الامكانات من ناحية، ومن ناحية ثانية فإنه مهما كانت الامكانات ضعيفة فإن بإمكانها تحقيق إنجازات إذا تم استغلالها بصورة صحيحة.
خلاصة القول أنه وفي مناسبة مثل يوم الأرض، الأجدر بنا أن نعيد التفكير مرة أخرى من ناحية جذرية في مجمل خطواتنا على الأرض عوضاً عن بذل الجهد في الخطاب. ليس من المعقول بعد عشرات السنين، وهذا الكم الذي خسرناه من الأرض ان نستمر في نفس "الطقوس"، ونجتر نفس الكلمات والمعاني دون ان تجد لها رصيداً كافياً على أرض الواقع. وبدل من الاستمرار، بل وزيادة تفاقم حدة ومشكلات وجودنا على الأرض فانه مطلوب منا التفكير ثم اعادة التفكير مرة اخرى في الاهداف والوسائل والطرق ومراقبة وقياس الأداء والنتائج وبما يمكننا من تعزيز حقيقي لمعنى الصمود على الارض والتشجيع على الوجود فيها وعليها والتمسك بها.

أضف تعليق