30 نيسان 2024 الساعة 08:16

شكراً "إسرائيل"!

2023-11-02 عدد القراءات : 169
محمد هلسة

قد يبدو عنواناً مستفزاً للوهلة الأولى، لكني أراه مدخلاً مهماً وضرورياً للفت الانتباه إلى طبيعة هذا الكيان المتأصلة وجوهره الذي لا يتبدل، ودورهما في تحرير وعينا من التباس الصورة الذي سببته مواقف بعض المضبوعين ببريق "إسرائيل" الزائف. 

تلقّت "إسرائيل" منذ بداية ملحمة طوفان الأقصى دعماً غير مسبوق من زعماء العالم، بما فيهم بعض العرب للأسف، ورفع علم الكيان الصهيوني على المباني العامة في أغلب أنحاء العالم الغربي تقريباً، وتقاطر زعماء الغرب إلى "إسرائيل" زرافات، فهرول الرئيس الأميركي بايدن، والبريطاني سوناك، والألماني شولتس، والفرنسي ماكرون، "للتعاطف وإبداء الدعم والتأيد اللامشروطين".

لكنَّ هذا المشهد المتكالب دعماً أعمى شهد في الأيام الأخيرة تآكلاً كبيراً وتصدعاً لافتاً في جدرانه، فـ"إسرائيل" "الدولة القوية" تستعين، إضافة إلى هذا الدعم، بفائض قوتها التدميرية لتقتل السكان المدنيين العزّل وتمارس التطهير العرقي، وهو في الواقع سلوك لم يبدأ مع ردها على "طوفان الأقصى"، بل إنها تفعل ذلك "بدم بارد" منذ احتلالها أرض فلسطين، ومن الصعب فصل أحداث الطوفان عن سياقها التاريخي وسلوك "إسرائيل" الإجرامي الممتد.

 بالطبع، هذا التآكل كلّه لا يحدث بفضل "الدعاية المعادية للصهيونية وللسامية" في العالم، ولا بفضل الملايين من الدولارات التي تنفقها التنظيمات الفلسطينية ووزارة الخارجية الفلسطينية، كما تفعل الخارجية الإسرائيلية، على الدعاية في أوروبا والعالم من أجل دعم سرديّتها "المفبركة" عن الحرب التي تشنها على ‎غزة، إنما يعود الفضل لما تفعله "إسرائيل" من حرب إبادة وتطهير عرقي ضد المدنيين الفلسطينيين العزل، والذي يشكل وقوداً يغذّي نقمة العالم عليها، ويعزز صورتها الحقيقة كسلطة استعمار عنصرية، وذلك برغم طوفان المعلومات الكاذبة الجارفة التي روّجتها منذ بدء الحرب لتلميع صورتها ناصعة القبح. 

وعلى الرغم من الإغراءات التي عرضتها على شخصيات عالمية مؤثرة وشركات دعاية، وبرغم الآف العاملين في مجال التكنولوجيا الفائقة في "إسرائيل" والخارج الذين يكرّسون وقتهم في شبكات التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام العالمية للتعامل مع الصور والمواد القاسية التي تخرج من الأراضي الفلسطينية المحتلة، ومن غزة على وجه الخصوص، بسبب ما ترتكبه من مجازر، تدرك "إسرائيل"، وهي تعمل بجد لكسب الحرب الشديدة على الرأي العام الدولي، أن مقدرتها على الاستمرار في كسب الدعم الدولي منوطةٌ بمدى قدرتها على نسج الأكاذيب وحبكها وعرضها في الوقت المناسب.

وكما يشكّل القصف الجوي جزءاً أساسياً من مسعاها المستميت لتحقيق صورة انتصار، فإن ترويج الرسائل المفبركة بفعالية يشكل كذلك جزءاً أساسياً من استمرار تلقي الدعم السياسي والعسكري العالميين. إنها تدرك أن الذي "يتحكم في الإعلام والشبكات الاجتماعية هو الذي يتحكم في العقول"، فالمشاهد القاسية والمؤلمة جداً التي تخرج من فلسطين إلى العالم أجمع تؤثر في صورتها المدّعاة كـ"ضحية"، وتثير غضب العالم منها.

وفي غالبية العالم، فإن اليد العليا هي بالتأكيد للرواية الفلسطينية الحقة؛ فنحن باختصار لا نحرر الصور الصادمة القادمة من تحت ركام المنازل المدمّرة في غزة، ولا نخضعها للرقابة والفبركة، فمشاهد أطفال غزة وقد خرجت أمعاؤهم ومُزّقت أشلاؤهم وأُحرقت بفعل النار الإسرائيلية المميتة، تكشف وجه "إسرائيل" البشع الذي تحاول أن تخفيه مساحيق التطبيع المصطنعة، وسموم الإعلام الغربي المعمي بعشق "إسرائيل"، وهي تخلق في المقابل تعاطفاً جارفاً مع الفلسطينيين في مختلف أنحاء العالم.

لكن "إسرائيل" المعمية تاريخياً بالغرور والغطرسة لا تريد أن تفهم أنها لا تستطيع الفوز في المعركة على الوعي، فالقوة المميتة ليست دائماً سبباً للنصر في الميدان ولا في معركة الوعي، ولا يمكن الفوز بكل شيء بفائض القوة التدميرية، فللقوة عيوبها، وخصوصاً إذا ما وقعت في يد الباطل المستند إلى الخزعبلات والأساطير. وحتى داخل المجتمع الإسرائيلي، يفقد الجمهور الإسرائيلي تدريجياً ثقته بما ينشر في وسائل الإعلام الرسمية حول مجريات الحرب ومعطياتها، وهو يدرك أن هناك كميات تزييف كبيرة جداً.

وقد أظهر استطلاع رأي نشرته صحيفة "معاريف" الإسرائيلية مطلع الأسبوع الحالي انخفاض نسبة الإسرائيليين المؤيدين للعملية البرية في غزة من 65% الأسبوع الماضي إلى 26% هذه الأيام، وهذا دليلٌ قاطع على اهتزاز الثقة بحكومتهم. 

وبالتوازي مع حرب الإبادة الشرسة الدائرة في الميدان، تتحول الحسابات الشخصية ومنصات التواصل الاجتماعي المختلفة هذه الأيام إلى ساحة معركة حول السرد، ويعبّر مستخدمو شبكات التواصل الاجتماعي في العالم هذه المرة عن مواقف داعمة واضحة للفلسطينيين في وجه ما يرتكب بحقهم، وهناك المزيد من أولئك الذين يدينون جرائم "إسرائيل" في العالم وفي البلاد العربية رغم تطبيع "البعض الرسمي" معها، وإن حاولت "إسرائيل" أن تشوه مشهد التضامن ببعض الناعقين عازفي أبواق الهزيمة من العرب المرجفين الذين يهاجمون غزة ومقاومتها ويثبتون مدى ارتعاشهم.

 وفي ذلك تتمنى "إسرائيل أن تظهر بعض "الإدانات" التي سمعت في العالم العربي تكسّراً في جدار المحرّمات المحيط بطبيعة النضال الفلسطيني، متوهمةً أن من الممكن أن تصبح الدول العربية، منذ السابع من أكتوبر 2023، شريكةً في تحديد معايير جديدة للنضال تقرّر بموجبها طرق المقاومة "المقبولة" وفق المقاييس الإسرائيلية.

إن موقف العالم العربي من حرب "يوم الطوفان" وما تلاها من رد فعل إسرائيلي هستيري يجسّد صورةً معاكسة تماماً للرغبة الإسرائيلية في تسويق نفسها كشريك طبيعي في المنطقة، وهي ترسّخ في الوعي العالمي والعربي على الأخص، المصحوب بمشاعر الغضب والنقمة على سلوكها التدميري المتغطرس، أنها مهما فعلت ستبقى خارج سياق الحياة العربية وفي هوامش هوامشها منبوذة محتقرة.

من وجهة نظر العالم العربي، ستبقى هذه الحرب وما رافقها من صور تدميرية تعكس مدى تعقيد نسج العلاقات مع الدول العربية، وحاجة "إسرائيل" إلى الاعتراف والإقرار بالفجوة الشاسعة الموجودة في تصور السلام والتطبيع بينها وبين البلدان العربية، كما ينعكس ذلك في سلوك الجماهير العربية التي تواصل في غالبيتها الساحقة إظهار العداء لـ"إسرائيل"، التي اصطدمت، وستبقى، بوجود صعوبةٍ متأصلة في اختراق الوعي العربي العام، وهي مهمّةٌ من المرجح أن تصعّبها، وربما تجعلها مستحيلة، الحرب الطاحنة التي تشنها على الفلسطينيين اليوم.

هذه التطورات الجيوسياسية والمعرفية الهائلة التي تهز منطقة الشرق الأوسط، بل والعالم، سيكون لها عواقب مهمة في سياق الصراع مع الفلسطينيين، ومنها "فرملة" تطبيع العلاقات بين "إسرائيل" ودول الشرق الأوسط.

وبالتأكيد، ستشكل نقطة تحوّلٍ مهمة في مواقف الأنظمة العربية تجاه "إسرائيل"، وذلك بفضل السلوك الإسرائيلي المتغطرس الأرعن، فهل يمكن بعد كل هذا القتل جسر الفجوات الحادة التي تزيدها نار الحرب اتساعاً، وإعادة تشكيل الرأي العام في الدول العربية وتغييره لتقبل "إسرائيل"؟

وحتى لو اعتقد الحكام في أبو ظبي أو الرياض أو المنامة أن من الأفضل لهم، بدلاً من قتال "دولة إسرائيل"، أن يصالحوها أو أن يقاتلوا معها ضد إيران، فلا يعني ذلك أن جماهير المواطنين العرب في هذه الدول لديهم الرأي نفسه. 

ويبدو أن الجيل الأصغر سناً في الشرق الأوسط هو الذي سيواجه "إسرائيل"، هذا إن بقيت، في ساحة المنازلة مرة أخرى في غضون سنوات قليلة مقبلة، فوحده دم الأطفال والنساء المسفوح ظلماً في غزة يصقل الوعي ويحرر ضحاياه من أوهام التطبيع. 

وقد ثبت أنَّ المقاومة في ملحمة طوفان الأقصى التي تدور رحاها اليوم لم تهزم "إسرائيل" فحسب، بل هزمت أوهام البعض أيضاً حول طبيعتها، فضلاً عن هزيمة خوف العرب من بطشها وغطرستها. 

الحرب على السرد لم تنتهِ ولن تنتهي مع هذه الجولة، ما دامت "إسرائيل"، "مشكورةً"، تذكّرنا في كل مواجهة بأنها عدو هذه الأمة اللدود، وتعيد تصحيح البوصلة التي حرفها مسار التطبيع والتطويع.

أضف تعليق