26 نيسان 2024 الساعة 13:23

الفساد

2019-06-26 عدد القراءات : 405
■ حين يكون الفساد حالة فردية، يسمى «خطأ» يحاسب عليه صاحبه أمام القضاء والقانون.
حين ينتشر الفساد، [وفساد السمكة يبدأ برأسها]، يصبح ظاهرة اجتماعية، تنتفى معها كل أشكال المحاسبة والمساءلة، فالجميع فاسد، ولا يمكن لفاسد أن يحاسب أو يسأل فاسداً آخر. فالكل بيته من زجاج، والكل متواطئ مع الكل. وإذا ما انكشف فاسد ما، بما يعود على «الظاهرة» بالخطر، حوسب من موقع الانتقام لعدم إجادته اللعبة، لا من موقع ردع فساده؛ بل لكونه خان أمانة الظاهرة وقواعدها وآليات تكتمها.
كثيراً ما تظهر قضايا فساد هنا وهناك، تطال شخصيات كبرى، لا يجرؤ القانون على مساءلتها، فهي التي صاغت القانون، وهي التي عينت من يفترض به أن ينفذ القانون. يتم الرد على أخبار الفساد الكبرى بأنها مجرد إشاعات مغرضة، هدفها النيل من «صمود شعبنا» و«صمود قيادته»، «وخدمة مشبوهة للأعداء».
هذا أمر ينطبق على واقع السلطة الفلسطينية بطبقاتها البيروقراطية العليا، وفي مؤسساتها كافة.. تقريباً. أساس الفساد في السلطة الفلسطينية هو الفساد السياسي الذي ينتج كل أشكال الفساد الأخرى. مصدر الفساد السياسي الانقلاب على البرنامج الوطني، الانقلاب على المؤسسة، وإدارة عملية تفاوضية سرية عبر مطبخ ضيق قاد إلى ولادة اتفاق أوسلو، بكل ما ألحقه ويلحقه بالحالة الفلسطينية من كوارث ونكبات لم تنته فصولاً، فصلها الأخير (هو ليس الأخير في مسلسله صفقة القرن) ورشة البحرين المسماة اقتصادية.
الفساد السياسي يحتاج إلى قاعدة اجتماعية توفر له الغطاء السياسي، فلجأ إلى إنتاج طبقة بيروقراطية بنت مصالحها الفئوية على قاعدة زبائنية اجتاحت القوانين والأنظمة والمال العام، وبنت لنفسها مصالح فئوية، تحولت مع الزمن إلى أسير لها، وإلى أسير لسياسة الفساد السياسي، لذلك تلجأ إلى كل أشكال تعطيل محاولات إعادة صياغة الأوضاع الحالية، لصالح الخروج من قيود أوسلو. فتعطل قرارات المجلس المركزي والمجلس الوطني، وتفرغ اللجنة التنفيذية من دورها، ومضمونها، وتحولها إلى «هيئة استشارية»، لا يؤخذ برأيها، وتم حل دوائرها الفاعلة ذات الدور والتأثير وألحقت بالسلطة الفلسطينية، وابتدع بدلاً منها دوائر، مضى على تشكيلها أكثر من عام لم يسمع الفلسطينيون لها صوتاً ولم يتلمسوا لها أثراً.
مع الفساد السياسي يولد الفساد الأمني، فالأمن هو القبضة التي من شأنها أن تمارس سياسة الترهيب، والترغيب، وإعادة تنظيم الصفوف، ومعاقبة كل من يخرج عن الصف العام، بأساليب انتقامية لا تقيم للقانون وزناً. الاعتقال الإداري، تمارسه الأجهزة الأمنية في السلطة ضد المواطنين كما تمارسه سلطات الاحتلال. ومصادرة جوازات  السفر (بدون أمر قضائي).
أعلى مرتبة من مراتب الفساد الأمني هو التنسيق الأمني، الذي وصفه عزام الأحمد، عضو اللجنة التنفيذية في م.ت.ف، عضو اللجنة المركزية لحركة فتح، في مهرجان الانطلاقة مطلع هذا العام في دمشق، وبحضور المدعوّين، بأنه «حرام». هو حرام في الضفة وهو حرام في غزة. هكذا قال عزام الأحمد. ومازالت الأجهزة الأمنية ومعها السلطة الفلسطينية تمارس الحرام، وتعتبره «حراماً مقدساً».
الفساد الأمني يضيق ذرعاً بالقانون، فهو يعمل دائماً على تطويع القانون وتزييفه، وأداته في ذلك القضاء الفاسد، الذي لا يتردد في الرضوخ لهواتف الأجهزة الأمنية، لإصدار مذكرات توقيف، دون سبب بحق «الخارجين عن الصف الفاسد».
النموذج الفاقع في هذا، قرار المحكمة المسماة دستورية، التي لم تتردد في تزييف القانون وتزويره، وادعاء ما ليس من حقها، والإفتاء بحل المجلس التشريعي، لأسباب واهية، كان واضحاً أن خلفها تكمن سياسة الفساد السياسي. أي إنهاء كل أشكال الرقابة التشريعية وإطلاق يد السلطة التنفيذية، وتحويل النظام السياسي الفلسطيني كأمر واقع، من نظام برلماني إلى نظام رئاسي فردي، أقرب إلى النظام الدكتاتوري، تدار شؤونه بالمراسيم الرئاسية.
يحتاج الفساد السياسي إلى غطاء أيديولوجي إعلامي، يمنحه الشرعية، فتتحول المؤسسات الإعلامية الرسمية، المدفوعة الأجر من المال العام، ومن ضرائب المواطنين، إلى مؤسسات تمجد الفساد، والفاسدين، والترويج لفسادهم السياسي، والتغطية على فسادهم الأخلاقي، والقانوني، ومناصبة العداء لكل من يحارب الفساد، ترى فيه خطراً على المؤسسة، تجيش طاقاتها الإعلامية في نقده والتطاول عليه، لكنها في الوقت نفسه تفقد شجاعتها في الدفاع عن مصالح الناس وحقوقهم، بل وتذهب إلى حد فرض الحصار على المطالبين بحقوقهم، ولعل تجربة تحركات المعلمين والموظفين العموميين، والتحركات ضد قانون الضمان الاجتماعي، أمثلة فاقعة.
أخيراً، وليس أخراً، يبقى الفساد المالي وواقعة زيادة مرتبات رئيس الحكومة والوزراء ومن في حكمهم رغم الأزمة المالية دليل دامغ. الكبار في السلطة يتسلمون رواتب كاملة، وتعدل رواتبهم بزيادات خيالية. الموظفون الأدنى ينالون 50% من المرتب. ويحرم منه عائلات شهداء وأسرى وموظفو تعيينات 2005 في القطاع. ولولا انكشاف فضيحة الزيادات، لمرت وجرى الصمت عليها. أما القول بأنها كانت خطأ تم التراجع عنه، فكلام باطل لأنه لم يقل من ارتكب الخطأ، وكيف مرت العملية عبر التسلسل الإداري وصولاً للرئاسة، ولماذا لم يتم المحاسبة على الخطأ.
الفساد ظاهرة اجتماعية تنخر صفوف السلطة، لذلك لا غرابة إذا ما طالعتنا أخبارها كل يوم عن فضيحة فساد جديدة.■

أضف تعليق