02 آيار 2024 الساعة 01:43

بروميثيوس حراً في غزة

2023-12-20 عدد القراءات : 163
عماد الحطبة

بحسب الأساطير اليونانية، منح بروميثيوس النار للإنسان، فعاقبه كبير الآلهة زوس، وطلب إلى إله الحدادة والنار تقييده بالسلاسل إلى صخرة، لكن الأمل الذي مس قلبه جعله يدرك أنَّ زوس سيعفو عنه يوماً. 

يروي إسخيليوس أسطورة بروميثيوس وتحرّره من الأغلال بواسطة هرقل بعد معارك مع كبير الآلهة الذي قبل في النهاية العفو عن بروميثيوس في مقابل لبس خاتم من قيوده، وهو الخاتم الذي أصبح مرتبطا ًبالأفراح، وخصوصاً الزواج.

 لم يرتكب بروميثيوس جريمة كبرى، فقد منح الإنسان النار ليضيء منزله ويطهو طعامه ويبني الأرض لتصبح جنة يمكنه العيش فيها. لم يكتفِ زوس بعقاب بروميثيوس، بل أغوى باندورا لتفتح جرّة الشرور وتطلق الأمراض والشرور والجوع والفقر، وسلَّطها على بني البشر عقاباً لهم على ما صنعوه.

في كل مرة يصعد فيها طاغية لحكم العالم، تتكرر القصة، ويستخدم الطاغية أدواته وأسلحته لقمع الشعوب، ويجر عليها الويلات من فقر وجوع وقهر. في بلادنا، عندما بدأت الإمبراطورية العثمانية بالانهيار، كانت الرأسمالية تصعد لتكون سيد الكون، مطلقة مرحلة استعمارية نهبت من خلالها ثروات شعوب العالم، وسامتهم الذل والخسف والهوان. 

كان نصيب بلادنا التقسيم على يد سايكس وبيكو واتفاقية فرساي. كان نصيب فلسطين من هذا التقسيم أن تقيّد إلى المشروع الاستعماري إلى الأبد بمنحها ليهود أوروبا تحت ذرائع مختلفة تراوحت بين الوعد التوراتي والتكفير عن ذنوب الهولوكوست، لكن الحقيقة كانت سعي القوى الاستعمارية لخلق رأس حربة لها في منطقة تسيطر على أهم الممرات المائية التي كانت وما زالت تشكل عصب التجارة العالمية. 

لم تغب عن العقل الاستعماري محاولة محمد علي خلق دولة كبرى في المنطقة عندما عبرت جيوشه صحراء سيناء باتجاه بلاد الشام ووصلت إلى الأناضول لولا تدخل الدول الاستعمارية، وبشكل خاص بريطانيا وألمانيا وروسيا القيصرية، التي فرضت على الخليفة العثماني القبول بمعاهدة لندن (1840)، والتي رفضها محمد علي في البداية، ثم عاد لقبولها معلناً نهاية أحلامه بإنشاء دولة موحدة عاصمتها القاهرة. 

في تلك الفترة، راجت مقولتان، واحدة تنسب إلى محمد علي باشا بأن الخط الدفاعي الأول عن مصر يبدأ من حلب، وأخرى تنسب إلى إمبراطورة روسيا كاترين بأن خط الدفاع الأول عن روسيا يبدأ من دمشق. 

بصرف النظر عن صحة هاتين المقولتين، إلا أن مضمونهما كانت واحداً من العوامل التي ساهمت في رسم خرائط المرحلة الاستعمارية في بلادنا، وكان الفصل بين آسيا وأفريقيا العربيتين أو بين مصر والشام واحداً من هذه العوامل، ولم يكن هذا الفصل ممكناً إلا بزرع كيان استعماري يكبّل فلسطين، ويمنح المستعمر إشرافاً شبه مباشر على قناة السويس، ويسمح له بحرية الحركة العسكرية باتجاه منابع النفط إذا دعت الحاجة. 

هذا ما قام به الاستعمار عام 1967 عندما أغلق قناة السويس لحرمان المشروع الناصري في مصر من عوائدها، وعاد إليه في حرب الخليج الثانية، وفي احتلاله العراق عام 2003، وما يفعله في ليبيا وسوريا اليوم.

ومثل النسر الذي سلَّطه زوس لينهش كبد بروميثيوس، كان الكيان الصهيوني ينهش كبد فلسطين والأمة كل يوم، معتقداً أنه باقٍ إلى الأبد، لكن الأمل الذي خرج من جرة باندورا ولامس قلب بروميثيوس لم يغب عن فلسطين، فكانت المقاومة الفلسطينية منذ مطلع القرن الماضي الأمل الذي داعب قلب الأمة، وقدّم التضحيات ليفكّ قيودها. 

رغم الانتكاسات التي واجهها مشروع المقاومة العربية بسبب وحشية العدو الإمبريالي، وعدم تورعه عن ارتكاب أبشع المجازر بحق أبناء الأمة في فلسطين ومصر وسوريا والعراق، وتواطؤ النظام الرسمي العربي مع المشاريع الاستعمارية، فإنَّ منحى المقاومة استمر صعوداً، واستطاعت المقاومة تطوير وسائلها وتحالفاتها لتتمكن من التصدي للعدو وتكبيده الخسائر أولاً، ثم الانتقال إلى إلحاق الهزيمة بجيشه في مرحلة لاحقة.

كانت حرب تموز 2006 نقطة مفصلية في تاريخ الصراع مع العدو؛ ففي تلك المعركة سقطت وإلى الأبد أسطورة الجيش الذي لا يقهر، وأصبح الكيان الصهيوني، في نظر المقاومين، هشّاً قابلاً للهزيمة. 

تكمن أهمية هذه الخلاصة في إعادة النظر في استعدادات محور المقاومة لتتحول من إستراتيجيات الدفاع إلى الهجوم وتطوير سلاح الصواريخ للرد على تفوق العدو الجوي، وأصبح بإمكان المقاومة تجاوز الدفاع وإنزال الخسائر بالعدو في ساحة المعركة إلى الضرب خلف خطوط العدو وتكبيده خسائر أكثر فداحةً مما يتوقع.

كان "الربيع العربي" محاولة استعمارية لإعادة صياغة الجغرافيا السياسية للمنطقة، وإنهاء ظاهرة المقاومة التي بدأت تتحول من حالة قطرية إلى محور إقليمي قادر على فرض بعض الشروط على آليات الصراع في المنطقة. 

فشل المشروع الاستعماري، واتسع محور المقاومة بانضمام اليمن والعراق، وأصبح أكثر تماسكاً، وتوسع نطاق الحلفاء بانضمام روسيا ومشاركتها المباشرة في المعركة في سوريا.

عام 1820، كتب الشاعر الإنكليزي برسي شيللي مسرحيته "بروميثيوس طليقاً". في مزج بين الفلسفة والأدب، يبدو زوس رمزاً للشر المطلق، ويواجهه بروميثيوس الذي يرمز إلى نضال البشرية من هذا الشر. ينتصر بروميثيوس في نهاية هذه الحرب ويعود إلى آسيا بهاؤها، وهي التي ترمز إلى جمال الطبيعة ونقائها.

يوم السابع من تشرين الأول/أكتوبر، حطّم بروميثيوس الفلسطيني أغلاله، وواجه الشر الذي تمثله الرأسمالية وكيانها الطارئ على فلسطين، ليعلن أن المقاومة تنتصر، وأن زمن الحرية آتٍ، وليبشر بسقوط إمبراطورية الشر لمصلحة إمبراطورية الشعوب القائمة على قواعد العدل والحرية والإنسانية.

أضف تعليق