04 آيار 2024 الساعة 22:40

قراءة في كتاب يؤكد أن تاريخ إسرائيل أوروبي في معظمه

2021-08-13 عدد القراءات : 616
في السنوات العشرين الماضية أو ما يقاربها، أُلقيت ظلالٌ من الشك العميق على إمكانية كتابة تاريخ لـ"إسرائيل"، استناداً إلى روايات التوراة. ووصل ببعض المؤرخين إلى حد التشكيك، من حيث المبدأ، بإمكانية كتابة تاريخ من هذا النوع، إذ ما يزال البحث عن تاريخ "إسرائيل" غامضاً، كما كان دوماً. كما أنّ أي محاولة للتوفيق بين البيّنات التوراتية وغير التوراتية، إثباتاً لتاريخانية "الدولة"، سرعان ما دخلت مرحلة الانهيار، التي ما زالت متواصلة حتى اليوم.
من أبرز رواد هذا الاتجاه وأكثرهم تأثيرًا المؤرخ توماس تومسون (Thomas T. Thompson)، صاحب كتاب "أسفار العهد القديم في التاريخ اختلاق الماضي"، ترجمة: د. عبد الوهاب علوب، (القاهرة، رؤية للنشر والتوزيع، 2020). وقد صدرت له ترجمة عربية سابقة بعنوان، "الماضي الخرافي (التوراة والتاريخ)"، ترجمة: عدنان حسن، (دمشق، قدمس للنشر والتوزيع، 2003).
في هذا الكتاب وعبر ثلاثة أبواب تتضمن خمسة عشر فصلًا، وعلى امتداد 597 صفحة. يذهب تومسون، بقدر كبير من الثقة، "بأن العهد القديم ليس تاريخًا لماضي أحد بعينه. وقصة شعب إسرائيل المختار والمنبوذ التي تقدمها هي مجاز فلسفي أو جنس بشري ضل طريقه، والتراث نفسه هو حديث عن العثور على هذا الطريق. وبإضفائنا للصبغة التاريخية على هذا التراث تاهت عن أعيننا الركيزة العقلية للعهد القديم ومعها ركيزتنا العقلية أيضًا. ومسألة الأصول التي غلبت على البحث الحديث في العهد القديم تنتمي إلى اللاهوت لا إلى التاريخ" (ص 29).
في الباب الأول: "كيف تتحدث القصص عن الماضي"، يعالج تومسون مكانة العهد القديم في الماضي، حيث يقول: "نتيجة للاهتمام الأثري الذي نشطه غزو وجيوش نابليون للشرق الأوسط، أضفى القرن التاسع عشر على مجال البحث التاريخي هدف إعادة بناء مكان العهد القديم في تاريخ الشرق الأدنى القديم. مع أن دراسات العهد القديم لها جذورها في هذا العمل التاريخي النقدي في القرن التاسع عشر، فقد شهد القرن العشرون تطورات نقدية تآكلت؛ نتيجة لتطور منحى جديد لفهم العهد القديم هو في أدق وصف له أحد أشكال (الواقعية الساذجة).
ولا تزال قصة العهد القديم عن الماضي، والتي تقوم على قيام إسرائيل القديمة وسقوطها تسيطر على محاولات إعادة البناء التاريخي في حقل دراسات العهد القديم، ولو أن الجانب الفني لهذه القصص وما به من تسلية قليلًا لما لقى ما يستحقه من اهتمام. فهي لم تُر إلا في تحولاتها بوصفها سردًا لأحداث وتحولت إلى تاريخ (...) في حين أن علم آثار العهد القديم فشل فشلًا ذريعًا في إضفاء سياق تاريخي على العهد القديم يمكن فهمها فيه فهمًا منطقيًا" (ص 34 ـ 35).
وتضمن الباب الأول، أربعة فصول، الفصل الأول، التاريخ والجذور: الماضي المتغير. والفصل الثاني، الخلط بين القصص والشواهد التاريخية. الفصل الثالث، المعالجة القصصية للماضي في العهد القديم. الفصل الرابع: خرافات الأصول. (ص 37 ـ 168).
العهد القديم ليس تاريخًا لماضي أحد بعينه. وقصة شعب إسرائيل المختار والمنبوذ التي تقدمها هي مجاز فلسفي أو جنس بشري ضل طريقه، والتراث نفسه هو حديث عن العثور على هذا الطريق.
حمل الباب الثاني عنوان: "كيف يختلق المؤرخون ماضيًا". ويتضمن هذا الباب، خمسة فصول، الفصل الخامس: "البدايات"، و الفصل السادس: "اقتصاد البحر المتوسط"، والفصل السابع: "شعوب فلسطين"، والفصل الثامن: "في ظل الإمبراطوريات"، والفصل التاسع: "المؤرخون واختلاق التاريخ". يشير المؤلف إلى جذور إنسان فلسطين الأول، حيث تم العثور على أقدم رفات بشرية في عبيدية ، وتم "تحديد تاريخ البقايا العظمية بحوالي 1.4 مليون سنة" (ص 174).  
ويتناول ظروف نشأة اللغات السامية التي يرجع جذورها إلى أفريقيا "عدن الأفريقية 7000 ـ 6000 ق.م" (ص 179). ويري أنه "بانتشار الجفاف في شمال أفريقيا، دخل النازحون ـ أولًا ـ منطقة سوريا وفلسطين بوصفهم بدوًا رعويين" (ص 189). و"في المناخ الأقل حرارة والأكثر رطوبة الذي ساد في أواخر الألف الرابعة والثالثة، ابتكر سكان فلسطين على اختلافهم عددًا من سبل كسب العيش في فلسطين يختلف باختلاف مناطقها إبان إيجادهم لأول نموذج (لاقتصاد البحر المتوسط)" (ص 197). و"كان لكل بلدة سيدها وحاميها أو "أبوها الروحي". وكانت التحصينات الهائلة والسريعة التشييد التي عجت بها فلسطين حتى نهاية العصر البرونزي الوسيط هي السمة المميزة" (ص 203).
ينتقد تومسون النظرية القائلة التي تقوم على حدوث هجرات عمورية إلى فلسطين، في الحقبة الفاصلة بين العصرين البرونزي الأول والبرونزي الوسيط، وغرض هذه النظرية بحسب تومسون، اختلاق "تاريخًا مزدوجًا لجذور شعب إسرائيل القديم، تاريخ لهم بوصفهم بدوًا من شمال بلاد الرافدين في أوائل الألف الثانية، والآخر بوصفهم رعاة شبه بدو في أواخر العصر البرونزي، حوالي سنة 1200 ق.م" (ص 211).
ويري تومسون، وهو على حق، أن "من أسوأ جوانب كتابتنا لتاريخ مصر القديمة وفلسطين، خاصة تواريخنا الأولى عن العصرين الحديدي والبرونزي، هو أننا ندعمها وتعسفًا بإعادة صياغة قصص كتبت بعد قرون، وتدفعنا إلى ذلك روايات كروايات جوزيفوس. وتطرح هذه السرديات بوصفها (قصصًا أصيلة)" (ص 229). يعد الانتقال من العصر البرونزي المتأخر إلى أوائل العصر الحديدي مسألة مهمة بالنسبة إلى فهم تاريخ فلسطين، والعلاقة بين العهد القديم وعلم الآثار.
وبحسب تومسون، "تلك الحقبة لا تقدم أدلة على نشأة شعب إسرائيل بمفهوم العهد القديم" (ص 238). ويعالج المؤلف مشكلتين؛ أولاهما: مشكلة القرن العاشر و"المملكة المتحدة"، والأخرى: مشكلة السبي والعودة؛ الأولى ليس لدينا سوى أقل القليل من الشواهد عليها، بينما تتوافر عن الأخرى شواهد لا حصر لها (ص 308). يري تومسون، ""إذا قدر لأحد أن يدون تاريخًا لفلسطين القديمة في الحقبة التي يحلو لباحثي العهد القديم أن يضعوا فيها شاؤول وداود وسليمان لقدم صورة تختلف تمامًا عن تلك التي تقدمها العهد القديم" (ص 316). فـ"العهد القديم يعني أي شيء إلا أن يكون تاريخًا" (ص 322). يعتبر المؤلف السبي "خرافة" (ص 332). فـ"أسطورة السبي هي أسطورة التراث لا أسطورتنا، ولا هي أسطورة التاريخ بكل تأكيد" (ص 342).
في الباب الثالث: "مكانة العهد القديم في التاريخ"، ويتضمن هذا الباب، خمسة فصول، الفصل العاشر: "عالم العهد القديم الاجتماعي والتاريخي"، الفصل الحادي عشر: "العالم الأدبي للعهد القديم"، الفصل الثاني عشر: "العالم اللاهوتي القديم"، الفصل الثالث عشر: "العالم اللاهوتي القديم"، الفصل الرابع عشر: "العالم اللاهوتي للعهد القديم"، الفصل الخامس عشر: "العالم الفكري للعهد القديم".
يلقي تومسون في هذا الباب أضواء على مكانة العهد القديم في التاريخ فيقول: "منيت الجهود التي بذلها علماء العهد القديم في القرن الماضي للاستعانة بهذا الكتاب في بناء تاريخ لإسرائيل بالفشل الذريع. ويكمن السبب في هذا الفشل في نوعية من الدراسات اهتمت في الدفاع واللاهوت أكثر من اهتمامها بالنقد والتاريخ" (ص 345). ويؤكد على أن "تاريخ فلسطين الذي تتبعناه منذ أواخر العصر الحجري المتأخر يعكس استمرارية شعب فلسطين" (ص 381- 382). و"من الصعب أن نعد يهودية الأحبار حقيقة تاريخية واجتماعية في أي عصر قبل القرن الثاني الميلادي" (ص 393). ويحدثنا تومسون عن "يهوديات متعددة" قائلًا: "وأساس هذا المفهوم الخاص بتعدد نسخ اليهودية أدبي أكثر من كونه تاريخيًّا. فهذه النسخ المتعددة من اليهودية هي كيانات خيالية، وتعكس تعددية في العقائد ولا سبيل إلى ربطها بأي قوم عاشوا في العالم القديم عدا مؤلفيها الذين وضعوها" (ص 394).
وعن تكوين العهد القديم يقول: "النسخة السبعينية من العهد القديم التي يمكن إرجاعها إلى القرن الثاني قبل الميلاد أو بعده ليست كلها ترجم للعهد القديم بالعبرية كما نعرفها. فبعض الروايات في النسخة السبعينية غير موجودة في العهد القديم بالعبرية. وبعض الأسفار كسفر المكابيين لم يكن له وجود بالعبرية، بل كان مدونًا باليونانية أصلًا. في حين أن هناك أسفارًا أخرى كالنسخة اليونانية من صموئيل تعد تنوعات على روايات تراثية تطالعنا في العهد القديم بالعبرية" (ص 347).
يستنتج تومسون أن "تاريخ إسرائيل أوروبي في معظمه. وهذا التاريخ، سواء أكان يهوديًّا أو مسيحيًّا، هو من نتاج الوعي الذاتي الأوروبي وله مكانه محورية فيه. فقد كتبته أوروبا ولأغراض تخص أوروبا!" (ص 547). فـ"حملة نابليون [كانت] مثلًا هي بداية اهتمام الدراسات الحديثة بالشرق الأوسط. فأدت لهفة الدراسات التاريخية والأثرية إلى إعادة التأكيد على حقوق أوروبا في ماضي فلسطين. فهو جزء من رؤية الغرب لتراثه في حضارة تطورت تصاعديًّا على مدار خمسة آلاف سنة، وهو عنصر أساسي في كفاح ديني خاضه المسيحيون لمصالحهم الفكرية والتعليمية في الغرب" (ص 549).
في هذا الكتاب تمكن تومسون من التحرر من خطاب الدراسات الدينية التوراتية في الكتابة التاريخية، وطالب علماء الآثار بالتخلي عن العهد القديم بصفته التاريخية، وعدم اتخاذه محورًا فكريًا أساسيًّا لكتابة التاريخ الفلسطيني.  

أضف تعليق