16 نيسان 2024 الساعة 22:32

الشرق الأوسط والتحولات في النظام الدولي

2020-01-11 عدد القراءات : 1986
لا تزال منطقة الشرق الأوسط تحظى بأهمية قصوى على الصعيد الدولي، وستبقى كذلك إلى عقود قادمة. فالصراع الذي يدور على هذا الصعيد بين الفواعل الأساسية، وأهمها الدول، يتمحور حول الاستحواذ على أكبر قدرٍ من المصادر المحدودة، لأن من يسيطر عليها تزداد قدرته على التحكم بالآخرين، وتتصاعد بالتالي مكانته دولياً. وعدا عن موقعها الاستراتيجي الذي يعطي أفضلية لمن يتحكم بمعابر وخطوط التنقُّل عبرها، فإن منطقة الشرق الأوسط تحتوي الكثير من المصادر الطبيعية، وخاصة النفط، ما يجعلها منطقة تزاحُم وتصارُع بين القوى المختلفة. السيطرة على النفط وخطوط إمداداته تعني التحكم ليس فقط بمّحرك الحياة وعصب الاقتصاد العالمي بشكل كلي، وإنما أيضاً بالقدرة التنافسية للدول على صعد مختلفة، الاقتصادية والسياسية والعسكرية.
تشهد هذه المنطقة حالياً احتدام العديد من الصراعات والمواجهات المتداخلة بين قوى عديدة، عظمى وكبرى وإقليمية. ويأتي على رأسها المواجهة الأميركية- الإيرانية التي تفاقمت مؤخراً، ناهيك عن قيام روسيا وتركيا وإسرائيل، إضافةً إيران بلعب أدوار مختلفة في الصراع على سورية تحديداً، وفي المنطقة بشكل عام. وقد أدى كل ذلك حتى الآن إلى تقويض سيادة دول وتفتيت كياناتها وإضعاف حكوماتها. وما طال العراق وسورية ولبنان وليبيا واليمن والصومال التي تشهد جميعها إما حروباً أهلية أو صراعات بالوكالة إلا دليل على ذلك. وعدا عن الآثار السلبية التي تُخلّفها هذه الصراعات والحروب على هذه الدول والمنطقة بأسرها، فإن لها أيضاً أبعادها وآثارها على الصعيد الدولي، بما في ذلك ما تُنبئ عنه من تحولات جارية على النظام الدولي الأحادي القطبية القائم حالياً. وفي هذا السياق يمكن رصد أربعة تحولات هامة.
اتساع تمدّد القوة: استقر النظام الدولي خلال حقبة ثنائية القطبية (1945- 1991) على وجود دولتين عظميين متقابلتين، وازَنَ كل واحدةٍ منهما الأخرى، ما حدّ من حرية قدرتهما على التصرف الحرّ والمنفرد، وقسّم الأعباء الدولية بينهما. هذا الاستقرار المبني على مبدأ توازن القوة انتهى بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وتحوُّل النظام الدولي إلى أحادي القطبية، تتربع على قمة هرمه الولايات المتحدة كدولةٍ عظمى وحيدة. منذ ذلك الحين لم يعد هناك كابحٌ يقف أمام هذه الدولة، فبدأت بمدّ نطاق هيمنتها على معظم أرجاء العالم، وقامت بتصرفات رعناء، وأشعلت حروباً، وأججّت صراعات. وكان لمنطقة الشرق الأوسط نصيبٌ كبيرٌ من ذلك.
 ولكن حرية التصرف دون كابح وضعت، من جهة أخرى، على عاتق هذه الدولة العظمى مسؤوليات جساماً، إذ أصبح متوقعاً ومطلوباً منها متابعة كل قضايا العالم طالما لا يوجد قوة عظمى أخرى موازية تتقاسم معها الأعباء. أصبح مطلوباً من الولايات المتحدة التدخل في كل القضايا الدولية، واتخاذ مواقف منها، ومعالجتها. وقد أدى ذلك إلى دفعها باتجاه تمديد قوتها على مناطق مختلفة من العالم، ما نجم عنه تذويب هذه القوة جرّاء انتشارها الأفقي، من جهة، واستنزاف الموارد الأميركية نتيجة هذا الانتشار الواسع، من جهة أخرى. وهذا ما حدا بالرئيس الأميركي أوباما للإعلان على الانسحاب من منطقة الشرق الأوسط لصالح تكثيف الوجود الأميركي في المحيط الهادي، وتلاه الرئيس ترامب بمطالباته المتكررة بزيادة المساهمات المالية للحلفاء كي تستمر القدرة الأميركية على الانتشار.
تتمثل المشكلة التي تواجه أميركا حالياً بعدم قدرتها على التوفيق بين رغبتها وقدرتها. فمن ناحية الرغبة هي تريد تقليص وجودها في منطقة الشرق الأوسط. والرئيس ترامب يعلن مؤخراً عن ذلك بتصريحه أن أميركا مكتفية ذاتياً من النفط. ولكن، من ناحية أخرى، تبقى القدرة على تحقيق هذه الرغبة محدودة، لأن متطلبات بقاء التفرد الأميركي يفرض على أميركا استمرار هذا التدخل. ولهذا السبب نجد نفس الرئيس يرسل المزيد من الجنود للمنطقة في ذات الوقت الذي يُعلن فيه بشكل مستمر رغبته في الخروج منها.
أهمية إقامة وإدامة التحالفات: أحد المبادئ المسّلم بها في حقل العلاقات الدولية هو تجميع القوة، إذ تُنصح الدول من أجل تعظيم قوتها بأن تقوم ليس فقط بالاعتماد بذلك على مواردها فقط، وإنما بأن تقوم بعقد تحالفات مع غيرها، ما يعني إضافة قوة إلى قوتها. وبتراكم القوة تستطيع الدولة أن تواجه المخاطر، وأن تفي بالالتزامات. هذا هو الحال على الصعيد الدولي، فأثناء ثنائية القطبية واجه حلف وارسو حلف الأطلسي.
منذ مجيء ترامب للسلطة بدأ بالضغط على الحلفاء التقليديين للولايات المتحدة، يملي عليهم رغباته، ويطالبهم بشراء أو بزيادة تمويل تحالفهم مع بلاده، لتقوم بالمقابل باستمرار حمايتهم. لقد أزال ترامب عن التحالفات الأميركية مع الغير أي غلاف قيمي- أخلاقي، حتى ولو كان شكلّياً، واستعاض عنه بترتيبات مصلحية مالية، حوّلت القوة العظمى الوحيدة في العالم إلى قوة مرتزقة تحركها المصالح العارية.
كان لهذا التحوّل آثار في غاية السلبية على استمرار قدرة الدولة العظمى القيام بالأعباء التي عليها تحمّلها لتحافظ لنفسها على هذه المكانة. فالحلفاء لم يتحولوا إلى أتباع كما يريد ترامب فحسب، وإنما قادهم تصرُّف الرئيس الأميركي الفظ إلى الانكفاء على أنفسهم والبدء بالبحث عن بدائل خارج الإطار الأميركي. هذا ما دفع بالرئيس الفرنسي، على سبيل المثال، لاقتراح إنشاء جيش أوروبي يتولى مهمة الدفاع عن أوروبا بمعزلٍ عن الولايات المتحدة.
الفراغ والقوى الإقليمية: عندما تتلكأ الدولة العظمى ما بين الانسحاب أو الانغماس في شؤون منطقة حيوية، كمنطقة الشرق الأوسط، وتُحجم الدول الكبرى الأخرى، مثل روسيا والصين، عن التدخل إلا موضعياً، فإن قوى إقليمية أصغر تبدأ بالتململ ومحاولة فرض نفسها على المنطقة. فالفراغ لا يُترك، وإنما يتم تعبئته. هذا ما قامت به إيران عندما بدأت في التغلغل ومدّ نفوذها في العراق وسورية ولبنان واليمن. وهذا كان مضمون تحوُّل السياسة التركية إلى الشرق وفق مبدأ «تصفير المشاكل». وبعد فشل ذلك أدى ذات الفراغ بتركيا إلى استبدال تلك السياسة بالتدخل العسكري المباشر في شمال سورية، واتخاذ قرار بذلك في ليبيا. أما إسرائيل فهي تستغل هذا الفراغ لتحلّ نفسها مكان أميركا طرفاً أساسياً في إقامة تحالفات أمنية جديدة في المنطقة، تضم معها دولاً خليجية.
إن ما يزيد الاضطراب في المنطقة هو هذا التنافس بين هذه القوى الإقليمية متوسطة القوة لملء الفراغ الناجم عن غياب الدور الفاعل للقوة العظمى أو للقوى الكبرى. وسيستمر هذا الاضطراب لحين إما فرض إحدى هذه القوى الإقليمية لهيمنتها على المنطقة، أو بروز دور فاعل وقادر لقوة خارجية جديدة على المنطقة.
الفرصة السانحة: تتجاوز الفرصة السانحة حالياً، والتي يُستدل عليها مما يجري في منطقة الشرق الأوسط، حدود هذه المنطقة، وتتعداها لتشمل إمكانية حدوث تغيير في النظام الدولي برمّته. فنظام أحادية القطبية الدولية، وخاصة بوجود الرئيس ترامب على رأس هرم إدارة الدولة العظمى التي تتربع على قمة هذا النظام، يعاني من وطأة ضغوط هائلة عليه. فالدولة العظمى مستنزفة، مواردها تنضُب بتسارع، وتحالفاتها تتشقق، وقوتها المتمددة الرقيقة أصبحت أوهى من أن تفرض الردع. وخير أمثلة على ذلك تراجع القدرة الأميركية على فرض الانصياع على كوريا الشمالية وإيران، وحتى على تركيا في موضوعيْ التسلح من روسيا واحتلال شمال سورية.
الفرصة الآن سانحة لتغيير وضعية أحادية القطبية الدولية. ولكن الأمر يتوقف على توفر الرغبة لدى إحدى الدول الكبرى، أو عند أكثر من دولة كبرى، كروسيا والصين، لتحدي الهيمنة الأميركية بصورة جلّية. فتحدي القوى الإقليمية للدولة العظمى لن يؤدي إلى تغيُّر المعادلة الموجودة حالياً، أي وجود قوة عظمى وحيدة، كون إمكانيات القوى الإقليمية تبقى متواضعة إذا ما قورنت بالقوة العظمى. هذه القوى الإقليمية تستطيع إيذاء القوة العظمى، ولكنها لا تستطيع استبدالها. الأمر منوط بالدول الكبرى، وحتى الآن لم تُبدِ أيّ من هذه الدول رغبتها، ولم تبدأ بالقيام بما يلزم، لانتهاز الفرصة السانحة.
تُنبئنا دراسة تاريخ العلاقات الدولية عن وجود مفاصل تاريخية؛ فرص سانحة للاستغلال، أدى استغلال بعضها إلى حدوث تغيّر في السياسة والمنظومة الدولية، كما أدى النكوص عن استغلال بعضها إلى إضاعة فرصٍ كانت متاحة لتحقيق ذلك.
 نحن نمرّ الآن في مثل هذا المفصل التاريخي، وستبقى فترة الأعوام القليلة المقبلة مليئة بالإمكانيات.■

أضف تعليق