
هيبت بلعة في "تقاليد خالدة": عن عشق المدينة وإنسانها
كثيراً ما تعكس معادلة "من الراهن إلى اللامنتهى" توقَ الفنانين للخلود في سعيهم الحياتي بتعبيرات فنيّة، توقٌ يخفّز لديهم خلق مادة إبداع، وتواصل، واستمرارية. مسار الفنانة اللبنانية، هيبت بلعة البوّاب (1975)، كثيراً ما يعبّر عن هذا الاتجاه في مسيرتها الطويلة منذ سبعينيات القرن الماضي، خصوصاً بين معرضيها الأخيرين "انطباعات محلية" منذ نحو عامين، و"تقاليد خالدة" حالياً.
في هذين المعرضّين على الأقل، كأن الفنانة شاءت أن تؤكّد استمرار وتواصل تجربتها، فكرّرتها في الموقع عينه في غاليري 56th في بيروت.
ويبدو أن الفنانة ساءها أن تقدّم أعمالاً فيها مساحات واسعة من القاتم في المعرض السابق، كأنها ساهمت فيه بإضافة همٍّ على هموم العامّة، فارتأت تسديد المسار كضرورة في سيرورة الأحداث والتطورات التي هبّت على البلاد في عامين، وراحت تغطي، بالألوان الزاهية، مساحاتٍ من لوحاتها الغالب عليها الكولاج، رفيق دربها منذ النشأة الأولى.
تؤكّد بلعة وجهتها من هذه الناحية، بقولها لــ "الميادين الثقافية" إنه من: "الصحيح إننا مررنا بأوقات عصيبة وفيها معاناة وألم كبيرين، إنما غالبية اللوحات (المعرض الحالي) نفذت في العام 2023 وبداية العام 2024 حيث كنت بحاجة إلى بث بعض الأمل، والتفاؤل بعد لوحات في المعرض السابق كانت حزينة وتجسد معاناة".
وفي جميع منجزاتها الفنية، كان الانسان هاجسها، فهو المادة الأساس لموضوع اللوحة، أخذت منه كل روايات لوحاتها، خصوصاً في جموع من البشر، في منحىً يؤثِر الميل نحو المجتمعيّة على حساب الإفرادية، وتصف لوحاتها الحالية، وهي تعلّق على تمسّكها بالانسان مادة للوحات، إنّها "إستمرار للمعرض السابق، فإن كان لوجود الإنسان فيها، فالإنسان هو المحور في لوحاتي حتى من أول معرض لي في العام 1991، حيث تجلّى وجوده في اللوحات بحالات كنّا مررنا بها في سنوات عصيبة سبقت ذاك العام".
في معرض "تقاليد خالدة"، لا مهادنة في التمسّك بالجميل من الحياة مهما كانت قتامة الواقع عميقة ومتّسعة، فمعرضها السابق تضمّن المعاناة التي طغت بغير إرادة على الانسان، خصوصاً اللبناني، فــ"حتى المعرض الذي كان في بداية العام 2023، فقد جسّدَتْ بعضُ اللوحات أيضا فصولًا كثيرة عانى منها اللبنانيون"، كما تقول، إلّا أنها ألغت، أو تكاد، كلّ ما له صلة بالقاتم من الحياة، فجاءت الأعمال كلها زاهية، بالأصفر والأحمر، والبنفسجي، وسواها من ألوان.
من يرى أعمال المعرض، يشعر كأنّها كانت كلّما أنهت قصّ ورقة، أو قماشة أو أية مادة يتكوّن منها كولاج اللوحة، كانت تؤكّد وجهتها في تلوين المقصوصة بألوان الزهاء، حتى إذا انتهى العمل من اللوحات، جاء المعرض يعجّ بالحياة، والفرح، والأمل، عناصر يُفترض تجليها في التعابير المفقودة للوجوه، والأجساد بسبب طبيعة الكولاج، ومدى قدرته التعبيرية.
لماذا إصرارها على مادة الكولاج، تقول: "كوني تميّزت بها، وارتبط إسمي بها، ولا أعتقد أنه هناك فنان إستعمل طريقة الكولاج بنفس الأسلوب”، مع العلم أن حبّها للكولاج فيه تجليّات حنينيّة تعود إلى أولى نجاحاتها البارزة فيه، وهو مشروع قدّمته في سنيّ دراستها الجامعيّة، وليس ذلك بغريب، فطبيعة الانسان التمسّك بنجاحه الأول، مبعث سعادة الانتقال من المراهقة إلى الشباب والنضوج، لعلّه لا يتكرر دائماً.
المعرض يركّز على سلسلة من الكولاجات متعدّدة الوسائط على كل من الورق المقوّى والقماش، والتي "تعكس مجموعة من الموضوعات، والذكريات، وقضايا الحياة اليومية المستوحاة من محيطنا"، تقول هيبت بلعا بواب.
وبينما هاجر كثيرون بما لا يُحصى من الفنانين، وغيرهم، بسب الظروف والتطورات، لكن بلعة ظلّت متمسكة بأرضها، ووطنها، وهموم شعبها، وتضيف "لوحاتي هي لبنانية صرف، وعند تنفيذ كل منها لم أكن أفكر بأي مجتمع آخر، فقد تم إنشاء هذه الأعمال الفنية المذكورة خلال فترة مضطربة بشكل خاص، امتدت لأكثر من عامين"، موضحةً إنّ "الحرب أجبرتني على الانسحاب إلى مشغلي- مساحة من العزاء والهروب من الحقائق القاسية التي كنا نواجهها".
وترى أن العمل الفني شكلٌ من أشكال المقاومة والاستمرار، وهو نوع من الصراع من أجل البقاء، لذلك، "أصبحت عملية الإبداع بمثابة فعل من أفعال البقاء والمقاومة، وتوجيه مخاوفي وعواطفي إلى العمل".
أعمال المعرض تكشف عن التطور في طريقة بلعة مع الحفاظ على الموضوع الذي استمر ملهماً لها، وهو مدينة بيروت، وبلدها لبنان، وشعبه، إلى جانب الجبال الخلابة، وسحر البلاد المتنوع.
الطابع التعبيري يغلب على المعرض، مع مرورٍ على مسحات انطباعية متنوّعة، مع بعض رمزيّة، ويحضر التجريد فيه بشكل أوضح من أعمالها السابقة.
يذكر أن بلعة عرضت في العديد من المعارض الفردية في لبنان ودبي وأبو ظبي. تشمل المعارض الجماعية المختلفة التي شاركت فيها أماكن محلية ودولية.
أما على المستوى المحلي، فتشمل معارضها الجامعة الأميركية في بيروت، والجامعة اللبنانية الأميركية، والأكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة، وهاياغازيان، وStation Des Arts، ومتحف سرسق.
وعلى المستوى الدولي، عرضت أعمالها في Grand Palais de Paris، بالإضافة إلى عروض في القاهرة ودبي وأبو ظبي والبحرين والكويت. ومؤخراً في عام 2019، تمت دعوتها للمشاركة في بينالي بكين الثامن للصين.
أضف تعليق