• أسطورة "عماليق" جذر الإرهاب الصهيوني
    2024-01-13
    محمد حسب الرسول

    في السابع من تشرين الأول/أكتوبر الماضي كان الخطاب الديني حاضراً عند متخذ قرار الحرب الاسرائيلي، وهو الخطاب الذي تأسست عليه "دولة إسرائيل" في عقل العلماني ثيودور هرتزل، مؤسس الحركة الصهيونية، قبل أن تتحول فكرة "الدولة" إلى واقع ملموس في يوم السبت 15 أيار/مايو 1948.

    وفي الخامس والعشرين من تشرين الأول/أكتوبر الماضي، أطلّ بنيامين نتنياهو على العالم بخطاب متلفز أصّل فيه حرب الإبادة الجماعية والتطهير العرقي، اللذين ترتكبهما قواته في غزة، عندما استدعى الخطاب التوراتي واستعان بنبوءة إشعياء، حين قال: "نحن أبناء النور فيما هم أبناء الظلام، وسوف ينتصر النور على الظلام وسوف نحقق نبوءة إشعياء، لن تسمعوا بعد الآن عن الخراب في أرضكم، وسنكون سبباً في تكريم شعبكم وسنقاتل معاً وسنحقق النصر".

    وأضاف: "يجب أن تتذكروا ما فعله عماليق بكم، كما يقول لنا كتابنا المقدس، ونحن نتذكر ذلك بالفعل، ونحن نقاتل بجنودنا الشجعان، الذين يقاتلون الآن في غزّة وحولها، وفي جميع المناطق الأخرى في إسرائيل".

    ولم ينسَ بنيامين نتنياهو الاستشهاد بسِفر صموئيل الأول، وقال: "اذهب وحارب عماليق، اقضِ عليهم قضاءً تاماً، هم وكل ما لهم، لا تشفق عليهم، اقتل جميع الرجال والنساء والأطفال والرضّع، واقتل ثيرانهم وغنمهم وجِمالهم وحميرهم، وحاربهم حتى يَفنَوا".

    وعماليق( (Amalek أو Amaleq)) هم شعب، ذُكر في التراث اليهودي، ويُقصَد بهم البدو الرحّل في شبه جزيرة سيناء وجنوبي أرض كنعان/فلسطين، واتخذهم بعض أتباع الكتاب المقدس أعداءً لهم. وجاءت الإشارة إلىهم في كتب التراث اليهودي، وبصورة خاصة في التوراة والتناخ والتلمود، ويظهر ذكر عماليق في نصوص كثيرة، منها:

    - "اذكر ما فعله بك عماليق في الطريق عند خروجك من مصر. كيف لاقاك في الطريق وقطع من مؤخَّرك كلّ المستضعفين وراءك، وأنت كليل ومتعب ولم يَخَف الله. فمتى أراحك الربُّ إلهُك من جميع أعدائك حولك في الأرض التي يعطيك الربّ إلهُك نصيباً لكي تمتلكها، تمحو ذكر عماليق من تحت السماء، لا تنسَ". سفر التثنية (25: 17-19).

    - "فقال الربّ لموسى: اكتب هذا تَذكاراً في الكتاب وضَعْه في مسامع يشوع؛ فإني سوف أمحو ذكر عماليق من تحت السماء". سِفر الخروج (17: 14) . 

    - "ثم رأى عماليق فنطق بمثله، وقال: عماليق أوّل الشعوب، وأما آخرته فإلى الهلاك". سِفر العدد (24: 20).

    - "فالآن اذهب واضرب عماليق وَحَرِّمُوا كلَّ ما له، ولا تَعْفُ عنهم؛ بل اقتل رجلاً وامرأة، طفلاً ورضيعاً، بقراً وغنماً، جملاً وحِماراً". سفر صموئيل الأوّل (15: 3).

    - "وأرسلك الربّ في طريق وقال: اذهب وحرّم الخطاة عماليق وحاربهم حتى يَفنوا". سفر صموئيل الأوّل (15:18).

    تُحرم النصوص سالفة الذكر عماليق، وتدعو إلى محو ذكرهم، وتبيح إبادتهم وإفناءهم وقتلهم جميعاً، رجالاً ونساءً وأطفالاً ورضّعاً، وإبادة حيواناتهم.

    وعماليق، في "الوعي" الصهيوني، حالة مستمرة تتجلى في كل من يناهض المشروع الصهيوني ويقاومه. وصارت كلمة عماليق تعبّر عن مفهوم مرادف لمفهوم الأغيار في العقيدة والثقافة الصهيونيتين، والذي يرمز إلى الشرّ. ويمثل العربُ والمسلمون في آسيا وأفريقيا عماليقَ العصر في المنظور الصهيوني، الذي يعمل من أجل استكمال بناء مشروع الشرق الأوسط الكبير/الجديد، في جغرافيته التي تبلغها مفاعيل حروب التطهير العرقي والإبادة الجماعية الإسرائيلية.

    لمفهوم عماليق، الذي يحمل معنى دينياً وتاريخياً في التراث الصهيوني، تجليات سياسية كالتي عبّر عنها بنيامين وغيره من المسؤولين الإسرائيليين، الذين طالب بعضهم باستخدام السلاح النووي في غزة، ومارسه بصورة عملية مسؤولون آخرون حين قطعوا عن غزة المياه والكهرباء، ومنعوها من الغذاء، وحرموها من الدواء.

    إن مفهوم عماليق حاضر بشدة عند الطبقات المكونة للبناء الاجتماعي في "إسرائيل"، وبصورة خاصة عند الشبان والطلاب. وخلاصةُ الدراسة الاستقصائية، التي أجراها جورج تمارين، أستاذ علم النفس في "جامعة تل أبيب"، على عينة من الطلاب والطالبات في المدارس الثانوية في "إسرائيل" بشأن تأثرهم بالدعوة إلى الإبادة المنسوبة إلى "يشوع"، عكست تأثراً كبيراً بهذه الدعوة. وأكدت نتائج الدراسة أن نحو 80% من الشريحة الطلابية، التي أُجريت عليها الدراسة، مؤمنون بمضمون الدعوة، وأن نحو 40% منهم يأملون تكرار ما لحق بمدينة أريحا من إبادة في المدن والقرى العربية التي لم تهوَّد بعدُ.

    لا تثير نتيجة تلك الدراسة الدهشة ولا الاستغراب، فلقد تأسست "دولة إسرائيل" على الإبادة الجماعية والتطهير العرقي، وأعملت جماعات الهاغاناه والأرغون، وغيرهما من المنظمات الصهيونية الإرهابية، سلاحها في وجه أصحاب الأرض والتاريخ من الفلسطينيين وقتلتهم وأخرجتهم من ديارهم بغير حق.

    ولهذا، فإن كل العمليات الإرهابية، التي تقوم بها القوات الاسرائيلية في غزة أو في سائر أراضي فلسطين أو في لبنان، تأسست على فكرة راسخة في الوجدان الصهيوني، سُطِّرت بدماء الأبرياء وأصحاب الحقوق.

    ولأن هاجس استمرار "الدولة" في أرض فلسطين هاجس مزعج ومرعب ودائم الحضور في الأوساط الإسرائيلية، عمدت "إسرائيل" إلى تغذية "المجتمع" الصهيوني بمفهوم عماليق، كما عملت على تعزيز حضوره في ذلك "المجتمع"، واستخدمت في ذلك مناهج التعليم والموسيقى والفنون والثقافة الشعبية والثقافة العامة، وأكدت ربطه بالدين من أجل منحه المشروعية والقداسة. كما قدّمته شرطاً لازماً لضمان استمرار "الدولة" وضمان بقائها، وجعلته ركناً رئيساً يقوم عليه الأمن والأمان.

    إن رسوخ ثقافة الإرهاب الصهيوني في الأوساط الإسرائيلية الرسمية والشعبية يطرح سؤالاً بشأن أنجع السبل إلى مناهضته، ويطرح أسئلة أخرى ملحّة بشأن مهنية محكمة العدل الدولية، وقدرتها على الإنصاف في أحكامها، والانتصاف لضحايا ذلك الإرهاب، وبشأن طبيعة أحكامها المنتظرة بعد المرافعة القانونية الدقيقة والرصينة، والتي قدمتها جنوب أفريقيا أمام هذه المحكمة، وخصوصاً أن الأحكام التي ستصدرها المحكمة يمكن أن تؤسس عهداً جديداً من العدالة الدولية التي ظلت غائبة، ويتطلب ذلك تسربل المحكمة بالمهنية وتمسكها بقيم العدالة.

    وفي إمكان المحكمة أن تعزّز فقدان الثقة بها وبالعدالة الدولية وبالنظام العالمي القائم على الظلم والجبروت، إن جاءت أحكامها على غير هدي القانون، متّبعة هوى السياسة وتأثيراتها.


    http://www.alhourriah.ps/article/87064