• غزة: مليار دولار حجم ظاهرة «التكييش» بسبب الحاجة للسيولة وضعف القدرة الشرائية
    2022-12-26
    غزة (الاتجاه الديمقراطي)
    أفضت الأوضاع الاقتصادية الصعبة وحاجة القائمين على قطاعات الأعمال المختلفة للسيولة إلى تنامي ما يعرف بظاهرة «التكييش»، التي باتت معاملاتها المالية تقدر شهرياً بعشرات ملايين الدولارات، وذلك تحت غطاء عمليات أو صفقات بيع وشراء لسلع مختلفة تجري بين طرفين متعاقدين رغم علم احدهما أو كليهما بحتمية ما ستلحقه هذه الصفقة من خسارة فادحة ومساس بصدقية كل من يتاجر بالسلع الخاضعة لها.
    ويشكل الاتجار بالمواد الإنشائية (الإسمنت وحديد البناء) والسيارات والأجهزة الكهربائية والأراضي والشقق السكنية أبرز السلع الخاضعة لمعاملات
    «التكييش»، التي يهدف «المتعامل بها بالدرجة الأولى للحصول على السيولة النقدية من خلال شراء سلعة ما بالتقسيط بقيمة أعلى من ثمنها الفعلي، ومن ثم يقوم ببيعها نقدًا بقيمة أقل بفارق كبير يصل إلى 35% عن سعر الشراء، من اجل الحصول على السيولة».
    وكشفت مصادر مسؤولة في وزارة الاقتصاد بغزة النقاب عن أن «قيمة معاملات البيع والشراء التي تمت بهدف
    «التكييش» والمسجلة لديها تجاوزت خلال العام الحالي مبلغ المليار دولار.
    «التكييش» للمواد الإنشائية
    وقال أحد القائمين على أكبر شركات تسويق المواد الإنشائية، إن عملية
    «التكييش» المتعلقة بشراء وبيع الإسمنت تتم بداية بأن يقدم أحد التجار أو أصحاب الشركات أو مقاول على شراء سلعة ما بالتقسيط بواسطة شيكات آجلة، ومن ثم يقوم هذا التاجر ببيعها مباشرة إلى تاجر آخر بثمن أقل مقابل أن يحصل على هذا الثمن المخفض نقداً «كاش».
    وقال المصدر نفسه، الذي طلب عدم ذكر اسمه، «تخضع تجارة الإسمنت لظاهرة
    «التكييش» وفق الطريقة نفسها التي تخضع لها سائر السلع والبضائع، مع فارق أن «تكييش» مادة الإسمنت يتم بمبالغ كبيرة، فعلى سبيل المثال يقوم تاجر ما أو مقاول بشراء كمية كبيرة من الإسمنت حيث يبلغ سعر الإسمنت المصري المباع نقداً 485 شيكلاً وبالتقسيط 510 شواكل فيشتري هذا التاجر المتعامل بـ«التكييش» الإسمنت وفق سعر التقسيط (510 شواكل للطن)، ومن ثم يبيعها لتاجر تجزئة أو مواطن عادي بقيمة 460 شيكلاً للطن نقداً.
    وأوضح، «لو أنه قام هذا التاجر بشراء ألف طن سيحرر شيكات آجلة بقيمة 510 آلاف شيكل باحتساب سعر الطن بالتقسيط 510 شواكل، ليبيعها عقب ذلك نقدًا بقيمة 460 ألف شيكل، وبالتالي تكون خسارته 50 ألف شيكل».
    خسائر بملايين الدولارات
    واكد أن هذا الأمر ينسحب على كل من تخضع تجارته لمعاملات
    «التكييش» ومنها تجارة السيارات والأجهزة الكهربائية والعقارات وتجارة الأجهزة الخلوية، إذ يتعرض كافة المتعاملين بـ«التكييش» لخسائر جسيمة، فتجار التجزئة الذين يشترون هذه البضائع وفق أسعار السوق ليحققوا هامش ربح محدود يعانون من كساد تجارتهم وأعمالهم عندما يجدون بضائعهم تباع بأسعار أقل بكثير، والزبائن من المواطنين الذين يشترون الإسمنت بالآجل لحاجتهم للسيولة النقدية يبيعون ما اشتروه بسعر أقل.
    ولفت المصدر إلى أن ظاهرة
    «تكييش» الإسمنت تسببت في إلحاق خسائر فادحة بالشركات المستوردة لهذه السلعة، وكذلك بتجار الجملة والموزعين.
    وبين أن التاجر الرئيسي الذي يقبل ببيع كمية كبيرة من بضائعه مقابل شيكات آجلة قد يكون عرضة للخسارة حال عدم قدرة محرر الشيك على الوفاء بالتزاماته وتسديد قيمة الشيكات التي اصدرها في موعد استحقاق دفعها.
    وأوضح انه اضطر إلى وقف التعامل بما سماه «التقسيط الوهمي»، وامتنعت شركته عن التعامل مع عدد من التجار بعد أن اتضح تعاملهم بهذه الظاهرة، معتبراً أن تنامي ظاهرة
    «التكييش» جاءت في ظل وضع اقتصادي صعب وسط حالة من الركود في الأسواق، إضافة إلى عدم توفر السيولة النقدية لدى العديد من التجار.
    وفي هذا السياق، أقر أحد التجار في غزة، بشراء نحو 60 ألف طن من الإسمنت المصري بشيكات مؤجلة ليبيعها بسعر أقل بنحو 50 شيكلاً للطن الواحد، ما يعني أن خسارته بلغت نحو ثلاثة ملايين شيكل، مقابل أن يحصل على ثمنها نقداً بنحو 27 مليون شيكل.
    وينسحب هذا الأمر على تجارة حديد البناء حيث يبلغ السعر المعمول به لطن الحديد 2900 شيكل، وعندما يتم شراؤه بواسطة شيكات آجلة يصل لنحو 3000 شيكل ومن يشتري بهذه القيمة يعمل على بيعها بنحو 2800 شيكل واحياناً اقل من ذلك مقابل أن يحصل على سيولة نقدية.
    «تكييش» ثمن السيارات
    من جهته، وصف رئيس نقابة مستوردي السيارات، إسماعيل النخالة، انعكاسات ظاهرة
    «التكييش» بـ«المدمرة» لتجارة السيارات لسببين: أولهما أن السيارة تعد سلعة مرتفعة الثمن، وبالتالي ستكون نسبة الخسارة كبيرة ما بين الشراء والبيع من اجل الحصول على السيولة النقدية.
    وقال النخالة، «غالباً من يقوم بعمليات
    «التكييش» هم تجار ورجال أعمال من قطاعات أخرى بسبب حاجتهم للسيولة النقدية، والسبب الثاني ينعكس سلباً على نفس السيارة أو الجيب المعروض في المعارض لتجار آخرين، حيث إن تكلفة هذه المركبات على أصحاب معارض السيارات أعلى مما يباع بـ«التكييش»، ما من شأنه إلحاق خسارة كبيرة في حال أراد التاجر بيعها أو الانتظار لحين نفاد ما تم «تكييشه» من السوق المحلية، وهذا بحد ذاته يؤدي إلى ركود يلحق أيضاً خسارة فادحة بالمستوردين الرئيسيين وأصحاب المعارض ممن لا يتعاملون بـ«التكييش»».
    وبين النخالة أن لجوء البعض لـ
    «التكييش» ينبع من حاجته إلى السيولة النقدية للإيفاء بصرف شيكات كان قد التزم بها أو دفعات لآخرين، أو أمور أخرى مثل ديون، لافتاً إلى انه تم طرح هذه القضية قبل اكثر من ثلاثة أشهر في اجتماع مع مسؤول وزارة الاقتصاد في غزة وتم اطلاعه على خطورة هذه الظاهرة، وتم التأكيد على ضرورة تدخل الجهات ذات العلاقة حيث جرى في وقت لاحق إصدار قرار بهذا الخصوص.
    ضربة لتجارة الكهربائيات
    ويعد الاتجار بالأجهزة الكهربائية، سواء من قبل تجار أو مواطنين، واحداً من أبرز ملامح ظاهرة
    «التكييش»، فبعض التجار يلجؤون لشراء كميات كبيرة من تلك الأجهزة بشيكات آجلة ومن ثم يقومون ببيعها لتجار تجزئة بأسعار مخفضة نقدًا، ومن الممكن أيضاً أن يشتري البائع نفسه إن كان واحداً من تجار التجزئة الجهاز الكهربائي الذي باعه لمواطن بالتقسيط ويدفع له ثمن الجهاز نقداً بواسطة مشتري وهمي، ولكن بسعر اقل مما اشتراه مستغلاً بذلك حاجة الأخير للسيولة النقدية.
    ولعل شريحة الموظفين ومحدودي الدخل كانوا من أبرز المتعاملين بهذه الظاهرة، نظراً لاحتياجاتهم للسيولة النقدية اللازمة لتغطية التزاماتهم المتعددة، سواء لتغطية نفقات معيشية أو تعليم أبنائهم أو تسديد ديون مترتبة عليهم.
    وبين أحد القائمين على شركات بيع الأجهزة الكهربائية أن هذه البضائع عندما تخضع لظاهرة
    «التكييش» التي يلجأ لها موظفون بعد أن يستوفي الموظف كافة الشروط، يقوم ببيعها بخسارة بنسبة 50% من ثمن شرائها، حيث يظل الموظف بذلك أسير العيش وسط هذه الدوامة طالما التزاماته بقيت أكثر من قيمة راتبه الشهري.
    واعتبر أن البيع بأسعار مخفضة يحد من مصداقية التاجر الأصيل، إضافة إلى تكدس البضائع لديه وتعرضه للخسائر المترتبة على انتهاء سنة إنتاج تلك الأجهزة، منوهاً إلى أن هذه الظاهرة تهدد بفقدان ثقة الزبائن والمستهلكين بالتجار وأصحاب الشركات المسوقة لهذه الأجهزة لتضاف بذلك إلى سلسلة الأزمات التي تعصف بتلك الشركات وبالاقتصاد المحلي بشكل عام.
    وأوضح أن تلك الظاهرة أدت إلى تزايد عدد الشيكات المرتجعة، حيث إن هناك العديد من مصدري هذه الشيكات الآجلة تعرضوا للحبس لمدة 91 يوماً وفق القانون، ويتم الإفراج عن السجين منهم ليقضي يوماً برفقة أسرته بمعدل مرة كل أسبوع.
    العقارات بالنقد والآجل
    وتخضع تجارة الأراضي والعقارات للظاهرة نفسها حيث أن احد كبار تجار القطاع لجأ لشراء قطعة أرض بقيمة خمسة ملايين دولار وباعها نقداً بنصف الثمن، بعد أن بلغت مديونيته للبنك الحد الأقصى واستنفد سقفه الائتماني، بحيث لم يعد بإمكانه الاقتراض من البنوك ما دفعه للجوء إلى التعامل بـ
    «التكييش» كي يحصل على السيولة النقدية اللازمة لتسيير أعماله ولو بشكل مؤقت، وتعد هذه الحالة من أشهر قضايا «التكييش» التي أجريت بمبالغ فلكية وأصبحت مؤخراً مثار حديث العديد من رجال الأعمال في غزة.
    وتضطلع بنوك بتنفيذ العديد من هذه الصفقات، سواء المرخصة أو غير المرخصة من قبل سلطة النقد، التي يسهل بعض موظفيها رفع سقف ائتمان هذا المقترض أو ذاك بحسب حجم تعاملاته مع البنك.
    معاملات بـ750 مليون دينار العام الحالي
    ويقول مدير عام السياسات لدى وزارة الاقتصاد في غزة، أسامة نوفل، إن «ظاهرة
    «التكييش» مرتبطة بالتقسيط ولكنها بدأت تأخذ منحى خطيراً طالما لم تكن ضمن معايير محددة».
    وأوضح نوفل أن هناك البعض ممن يحتاجون إلى السيولة كالموظفين، يتوجهون لشركة ما لشراء الأجهزة الكهربائية بالتقسيط عبر شيكات آجلة، وفي نفس الوقت يلزمهم التاجر البائع بالتوقيع على كمبيالات مفتوحة أو مبالغ كبيرة مسجلة في هذه الكمبيالات، ليضمن التزام المشتري بتسديد الأقساط المترتبة عليه.
    وكشف نوفل عن انه خلال العام الحالي سجلت الوزارة مبلغ 750 مليون دينار اردني (أكثر من مليار دولار) لدى عدد كبير من الشركات المتعاملة بـ
    «التكييش»، وهي مبالغ مترتبة على المقترضين ممن اشتروا وباعوا أصنافاً مختلفة من البضائع والسلع التي يتم الاتجار بها وفق هذه الظاهرة.
    ونوه إلى أن الوزارة تعمل على محاربة هذه الظاهرة، وأصدرت قرارا بمنع
    «التكييش»، كما طالبت المواطنين بعدم التوقيع على كمبيالات لدى التجار الذين يتعاملون معهم وفق ظاهرة الشيكات الآجلة.
    وأوضح نوفل أن هناك 57 شركة منها 9 شركات رفضت التعهد بعدم التعامل بهذه الظاهرة، وتمت إحالتهم إلى النيابة العامة.
    وقال نوفل، «نتلقى شكاوى من المواطنين تتعلق بـ
    «التكييش» المرتبط بإلزام المتعامل بها بالتوقيع على كمبيالات بمبالغ كبيرة كضمان لتسديد الأقساط المترتبة على المشتري، وفوجئنا بأن من يلتزم بدفع هذه الأقساط كان عرضة لعمليات نصب من قبل بعض الشركات التي قدمت إلى المحكمة كمبيالات موقعة بمبالغ كبيرة، رغم التزام الموقعين عليها بتسديد الأقساط الشهرية المترتبة عليهم واستيفاء الشركات قيمة الشيكات الآجلة التي حصلت عليها من مشتري بضائعها».
    ولفت في هذا السياق إلى أن الوزارة تمكنت من إتمام عمليات تسوية عديدة لمن تورطوا في توقيع كمبيالات، حيث تم إلغاء هذه الكمبيالات بعد أن ثبت تلقى التاجر قيمة الشيكات الآجلة التي استلمها من المشتري.
    وبين نوفل أن الوزارة اشترطت على كل من يتعامل بالتقسيط عدم فرض نسبة فائدة تتجاوز 5%، وأن تكون نسبة هذه الفائدة متوائمة مع النسبة التي تتعامل بها البنوك، مبيناً أن هناك بعض التجار فرضوا فائدة بنسبة بلغت 30%.
    وأوضح أن الوزارة لا تتدخل في عمليات بيع العقارات أو الأراضي حتى وإن كانت بثمن أقل من قيمتها الفعلية، طالما أنه ليس هناك أية قضية مرفوعة من قبل مشتري هذه الأرض أو حتى من قبل بائعها، فهذا الأمر مرتبط بالتراضي بين الطرفين حتى وان كان هناك غبن في ثمن البيع والشراء.
    وأشار إلى جملة من الأسباب التي أدت إلى نمو هذه الظاهرة منها ضعف القدرة الشرائية لدى المواطنين، موضحاً أن تجار البضائع يبيعون ما لديهم لتجار التجزئة بالآجل وتجار التجزئة يبيعونها بدورهم للمواطنين سواء بالنقد أو بالآجل، لذا فالمستهلك المحلي ليس بمنأى عن التداعيات المترتبة على هذه الظاهرة.■

    المصدر: جريدة الأيام

    http://www.alhourriah.ps/article/79610