• نظام دولي جديد يتشكل من البوابة الاوكرانية، لا توقفه سياسة العقوبات الاقتصادية
    2022-03-10
    كثير من المتابعين لأحداث الحرب الجارية في اوكرانيا يعتقدون أن عالم ما بعد هذه الحرب لن يكون كعالم ما قبل بدءها ولعلهم محقون في ذلك، فما يدور على الاراضي الاوكرانية ليس حرباً بين دولتين بل هي حرب عالمية بأدوات اختلفت عن أدوات الحربين العالميتين الأولى 1914 والثانية 1941. وللحرب العالمية أيا كانت أدواتها تداعيات تفرض نفسها بفعل قوة قوانين الصراع بين الدول المشاركة ونتائجها. فبعد الحرب العالمية الاولى تشكل عالم جديد كانت ابرز سماته تقاسم المستعمرات بين الدول التي خرجت منتصرة من تلك الحرب، وفي الحرب العالمية الثانية غابت الشمس عن دول الاستعمار القديم لتحل محله قطبية ثنائية شكلت الولايات المتحدة الاميركية وحلفاؤها من الدول الرأسمالية قطبها الرأسمالي وشكل الاتحاد السوفياتي وحلفاؤه من دول المعسكر الاشتراكي قطبها المضاد.
    سنوات طويلة مرت على القطبية الثائية التي تحكمت في مصير العالم بعد الحرب العالمية الثانية في اجواء من الحرب الباردة لم تخل من حروب ساخنة ومدمرة كانت معاركها تدور في شبه القارة الكورية وفي الفيتنام والشرق الاوسط وفي المستعمرات، وكانت النتيجة كوارث خلفت ملايين الضحايا ولكن في الوقت نفسه خروج عشرات البلدان من نير الاستعمار الى رحاب الاستقلال في اسيا وافريقيا وفي اميركا اللاتينية.
    ومع انهيار نظام القطبية الثنائية مطلع تسعينات القرن الماضي وسقوط الاتحاد السوفياتي وتفكك معسكر الدول الاشتراكية ونظام حلف وارسو واستقلال دوله وانضوائها تحت لواء الرأسمالية تشكل نظام دولي جديد انفردت فيه الولايات المتحدة الاميركية بالسيطرة والهيمنة شبه المطلقة على العالم في نظام أحادي القطب لم يحسن دائماً قراءة آفاق التطورات التي جاءت محمولة على موجات متلاحقة ومتسارعة من الثورات العلمية والتكنولوجية، التي غيرت وجه العالم وأفضت في سياق قدرة الرأسمالية على تجديد نفسها إلى ظهور قوى جديدة تضغط بحكم وزنها وحصتها ودورها في النظام الرأسمالي العالمي إلى  بناء نظام عالم جديد يقوم على تعددية الاقطاب باعتبار ذلك هو الاساس الذي لا بد منه للوفاء بالالتزامات الدولية على حد تعبير وزير خارجية الصين وانغ يي، وذلك في معرض تعقيبه على الحرب التي تدور في أوكرانيا والتي تجند الولايات المتحدة فيها أكثر من 39 دولة حول العالم بهدف استنزاف روسيا وتستخدم في ذلك أدوات النظام الرأسمالي بأسوأ اشكالها وأكثرها فظاظة وهي الحرب الاقتصادية (العقوبات المغلظة) في معركة هي في واقع الحال واحدة من سلسلة معاركها القادمة للحفاظ على هيمنتها وتفردها في تقرير مصير العالم دون حد أدنى من احترام التزاماتها نحو الأمن والسلم الدوليين.  
    ولكن هل هذه الحرب الاقتصادية التي تقودها الولايات المتحدة الاميركية لاستنزاف روسيا الاتحادية قادرة على وقف عجلة التطور نحو عالم متعدد الاقطاب قادر على الوفاء بالتزاماته الدولية في حفظ أمن وسلام هذا العالم. ليس في الأفق ما يبشر بذلك، وأوكرانيا وما يرافقها من حرب عالمية بأدوات غير تلك الادوات التي اعتاد عليها العالم في الحروب ليست الساحة المناسبة لوقف عجلة التطور، وهذه هي الشواهد والمعطيات على ذلك:
    في البداية تجدر الاشارة إلى أن ما أثار قلق روسيا الاتحادية ورئيسها فلاديمير بوتين ليس سيطرة المتطرفين القوميين على الحكم في كييف وتعاونهم أو في الحد الأدنى صمتهم على ممارسات من تصنفهم موسكو في خانة النازيين الجدد ضد الناطقين باللغة الروسية واندفاع السلطات الحكومية في كييف نحو اوروبا الغربية سواء بطلب الانضمام الى الاتحاد الاوروبي او الانضمام الى حلف شمال الاطلسي، بل والاطماع كذلك في منطقة الدونباس والسيطرة على ثرواتها، فمنطقة الدونباس غنية جداً بالغاز الصخري الذي يعتبر محط اطماع شركات الطاقة الاميركية، حيث تسعى هذه للحصول من الحكومة الاوكرانية على عقود استخراجه وبيعه لأوروبا عوضاً عن الغاز الروسي الطبيعي.
    وهي إلى جانب ذلك كانت منطقة صناعية رئيسية في زمن الإتحاد السوفياتي، فقد كان فيها الأفران التي تنتج محركات صواريخ الفضاء التي صارت أمريكا تشتريها من روسيا. وقد ورثت روسيا عن الإتحاد السوفياتي ذلك البرنامج المتقدم عن الصواريخ فوق الصوتية، التي جرى تطويرها لتصبح صواريخ تفوق سرعتها سرعة الصوت بخمسة مرات متفوقة في ذلك على الولايات المتحدة التي ما زالت متخلفة عن روسيا في هذا المجال 5 – 6 سنوات .
    وفي الحديث عن تداعيات محتملة للحرب الجارية في اوكرانيا يلح سؤال يتردد كثيرًا في وسائل الاعلام ومواقع التواصل: هل تؤثر العقوبات على اقتصاد الاتحاد الروسي وتدفع قادته لمراجعة حساباتهم وربما لرفع الراية البيضاء أمام الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي (الناتو)، على المدى المباشر يبدو تأثير تلك العقوبات محدوداً .
    فقد احتاط الرئيس بوتين لمثل هذا الاحتمال، أي احتمال المواجهة مع الولايات المتحدة والناتو منذ ان فرض الغرب على روسيا عقوبات في أعقاب قرار ضم القرم الى روسيا الاتحادية عام 2014. فعلى مدار تلك السنوات نجحت الحكومة الروسية في تقليص الواردات وقلصت الى حد كبير من الاستهلاك. وجمعت روسيا احتياطيا ضخما من الذهب والعملات الأجنبية فارتفع احتياطها بنهاية أكتوبر من العام الماضي إلى 623.2 مليار دولار، ونوعت تلك الاحتياطيات لتتضمن أصولاً أجنبية تشمل النقد الأجنبي والذهب، وأصبح البنك المركزي الروسي يملك صندوقا تقدر موجوداته بنحو 630 مليار دولار يكفي لاستيراد احتياجات البلاد لمدة عام كامل بوتيرتها الحالية.
    كما شهد الاقتصاد الروسي تطوراً بالغ الأهمية من حيث العلاقات التجارية مع الصين عبر عقود لتصدير الغاز وقعت لمدة 25 عاماً. وأصبح البنك المركزي الروسي يملك الكثير من اليوان الصيني، الأمر الذي يجعل الاقتصاد الروسي أقل ارتهانا لنظام الدولار. هذا إلى جانب فائض حساب جاري يقدر بنسبة 5 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي ودين عام يبلغ 20 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي وهو من بين أقل المعدلات في العالم. يضاف الى ذلك ان زيادة أسعار النفط بفعل هذه الحرب وتداعياتها توفر لروسيا هذا العام أرباحاً لم تكن متوقعة تقدر بـ 1.5 تريليون روبل (17,2 مليار دولار) من الضرائب على أرباح شركات الطاقة.
    الى جانب هذا كله فإن العقوبات الأكبر التي فرضتها الولايات المتحدة وعديد دول الاتحاد الاوروبي واليابان بتقييد قدرة روسيا على الوصول إلى نظام المدفوعات العالمية (سويفت) وفرض حظر كامل على الاستثمارات في روسيا، من شأنها أن تضع قيودا ثقيلة امام روسيا وتحد من قدرة بنوكها على الوصول إلى نظام سويفت لمدفوعات التصدير والاستيراد وما يترتب على ذلك من احتمالات خفض نمو الناتج المحلي الإجمالي في النصف الثاني من عام 2022 بمقدار 3,5 بالمائة. هنا يبدو ان حسابات الولايات المتحدة في فرض عقوبات على روسيا كحساباتها عندما أقرت الإدارة الأمريكية إخراج الجمهورية الاسلامية في ايران من نظام «سويفت» في عام 2018، فقد خسرت إيران ثمن حوالي 50% من صادراتها من النفط و30% من حجم تجارتها مع العالم. لا شك ان العقوبات التي فرضت على النظام المصرفي الروسي واستبعاد عدد من البنوك الروسية من شبكة «سويفت» قيد في حدود لا يستهان بها من قدرة روسيا على تلقي المدفوعات عن صادراتها، وسداد مقابل وارداتها، مما تسبب في هبوط الروبل الروسي.
    غير أن ايران شيء وروسيا الاتحادية شيء آخر، خاصة وأن النظام البنكي في روسيا غير مكشوف تماماً امام العقوبات كما هو الحال بالنسبة للجمهورية الاسلامية في ايران. تخطئ الولايات المتحدة كما تخطئ دول الاتحاد الاوروبي اذا هي راهنت على ان النظام البنكي الروسي مكشوف تماماً ولا يملك خيارات امام هذه العقوبات القاسية، فالبنوك الروسية لديها هي الاخرى حلول متعددة ومن هذه الحلول التحول الى نظام «يونيون باي»  الصيني للمدفعوعات، الذي يمكن استخدامه في 180 دولة في جميع أنحاء العالم في موازاة نظام سويفت. ولمزيد من التوضيح فإن نظام سويفت يرمز الى «جمعية الاتصالات المالية العالمية بين البنوك»، الذي بدأ العمل به عام 1973 م واتخذ من بلجيكا مركزاً له ويربط أكثر من 11 ألف بنك ومؤسسة مالية في أكثر من 200 بلد في نظام مراسلة إلكتروني يتم من خلالها اكثر من 42 مليون عملية تحويل مالي يوميًا، وهو نظام مرتبط بالدولار الأمريكي، واستطاعت الولايات المتحدة التحكم به بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 بعد ان فرضت رقابة شديدة عليه وجعلت جميع التحويلات المالية فيه تمر عبر طرف ثالث، وهو أحد البنوك الأمريكية، بحجة محاربة تمويل الإرهاب.
    ويساعد روسيا الاتحادية في هذا المجال كذلك عضويتها في مجموعة بريكس للاقتصادات الصاعدة والتي تضم أيضاً البرازيل والهند والصين وجنوب أفريقيا، إذ يستهدف هذا التجمع زيادة التعاملات الاقتصادية والتجارية بين أعضائه، وبالنظر إلى وجود أزمة الطاقة لدى الدول الصاعدة فسيكون من السهل على روسيا تسويق نفطها لديه.
    وهكذا فإن العقوبات الاقتصادية ليست على درجة من الفعالية بحيث تدفع روسيا الى التراجع او التوقف في منتصف الطريق، وقد تبين ان هذه العقوبات سلاح ذو حدين فبقدر تأثيرها السلبي على الاقتصاد الروسي، فإن لها ارتدادات عكسية على إقتصادات الدول المشاركة في فرض هذه العقوبة وعلى إقتصادات الدول النامية أيضاً. خاصة وأن الاقتصاد الروسي، الذي يحتل المكان العاشر عالميًا، يتمتع بمزايا قوية خاصة من خلال استحواذه على ثلاث سلع إستراتيجية لا غنى للدول الاوروبية تحديدًا عنها وهي الغاز والنفط والقمح.
    فأوروبا بشكل عام تعتمد بنحو 40 % من إحتياجاتها من (الغاز الطبيعي) على روسيا وفرض العقوبات الاقتصادية على روسيا بإخراجها من نظام «سويفت» سيقود إلى أزمة في قطاع الطاقة في دول الاتحاد الأوربي لأنها ستفتقد لوسيلة تسدد من خلالها إلتزاماتها نحو روسيا نظير مشترياتها من الغاز، فضلاً عن الانعكاسات السلبية الواسعة لو فكرت روسيا وقف إمدادات الغاز وما يترتب على خطوة من هذا النوع من أزمات يترتب عليها تعثر النشاط الصناعي والخدماتي وإرتفاع معدلات التضخم والبطالة. كما تُعتبر روسيا ثاني اكبر منتج للنفط في العالم بمعدل 11 مليون برميل يومياً، وأكبر أسواق النفط الروسي هي دول الاتحاد الأوروبي والذي يشكل النفط الروسي حوالي 27% من إحتياجاتها السنوية. وكذلك هو الحال بالنسبة للقمح فروسيا تعتبر من أكثر الدول المنتجة والمصدرة للقمح في العالم، ويصدّر القمح الروسي إلى معظم دول العالم لجودته وأسعاره المنافسة مقارنة بالدول الأخرى، وإذا تم فصل روسيا عن نظام «سويفت» بشكل كامل ومحكم فإن تصدير القمح إلى الدول المستوردة يمكن ان يتوقف وسيؤدي إلى إرتفاع سعر الخبز في العديد من دول العالم.
    من الواضح والحالة هذه أنّ دول الاتحاد الاوروبي تعرّض نفسها لخسائر أكبر من تلك التي تطال الولايات المتحدة بفعل العقوبات، لأنّ التواصل الجغرافي بين روسيا وهذه الدول يسهل الروابط الاقتصادية فضلاً عن الروابط الامنية. وقد يكون من السهل على الولايات المتحدة تصعيد عقوباتها الاقتصادية على روسيا بسبب ضآلة حجم التبادل التجاري والاستثمارات بين البلدين، لكن الوضع مختلف تمامًا مع دول الاتحاد الأوروبي، فالروابط والمصالح الاقتصادية المتبادلة أعمق بكثير، وإذا أخذنا ألمانيا الاتحادية نموذجًا على ذلك فإن نحو 6000 شركة ألمانية تنشط في روسيا مع ما يرافق ذلك من وظائف مرتبطة بهذه العلاقات بين البلدين تقدر بنحو 400 ألف وظيفة. وبشكل عام فإن الاتحاد الأوروبي يعتبر أكبر شريك تجاري لروسيا، بنحو 37% من إجمالي تجارة هذه الدول مع العالم في أوائل عام 2020، وفقاً للمفوضية الأوروبية .
    وفي المحصلة يبدو واضحاً ان روسيا الاتحادية كانت تعد نفسها لمثل هذه العقوبات منذ العام 2014 أي منذ الاعلان عن عودة القرم إلى الحضن الروسي وما صاحب ذلك من عقوبات غربية. فقد بنت روسيا الاتحادية لنفسها اقتصادًا شبه محصن من تداعيات هكذا عقوبات ووضعت أمن البلاد في كفة والوضع الاقتصادي في الكفة الأخرى ووازنت بين الأمرين بكيفية فاجأت الكثيرين وأربكت حساباتهم. هنا لا يبدو مفيداً ترداد صدى الدعاية المعادية لروسيا الاتحادية، والادعاء بأن الامور في طريقها ألى تسوية تقوم على توفير سلم أمان للرئيس الروسي فلاديمير بوتين يمكنه من النزول عن الشجرة، فالرئيس الروسي لم يصعد أصلاً على شجرة بل هو يقف على أرضية اختارها بعناية ومناسبة لحساباته في تصحيح مسار تاريخي خاطئ لتوازنات قوى تجاوزتها تطورات متسارعة في الثورة العلمية والتكنولوجية، وهي تطورات عبر عنها وزير خارجية الصين عندما قال بأن للصين علاقات استراتيجية مع روسيا هي الأكبر في العالم، والتزام دائم لتعزيز التعاون معها وبأن العلاقات مع روسيا قوية بصرف النظر عن التحديات العالمية داعياً الى العمل معا لتجاوز الحالة الصعبة التي يمر بها العالم من خلال التسليم بتعددية الأقطاب باعتبارها أساساً للوفاء بالالتزامات الدولية وأساساً لإدارة عالم اليوم بشكل منصف. ■

    http://www.alhourriah.ps/article/74487