• طوابير القهر ويوم العمل اللائق
    2021-10-12
    احتفلت البشرية هذا الأسبوع باليوم العالمي للعمل اللائق وهو يوم كرسته المنظمات والاتحادات النقابية العمالية، والمؤسسات الأممية لاحترام وضمان حقوق العاملين في أجور عادلة وظروف عمل تضمن السلامة العقلية والجسدية للعامل في مكان عمله. ويمكن لهذه الحقوق أن تتطور وتتسع بحسب اجتهادات ونضالات القوى والنقابات العمالية، لتشمل توفير إمكانيات أفضل لتطور الفرد العامل وأسرته وإتاحة مساحات من الحرية للعمال للتعبير عما يهمهم، وتكافؤ الفرص والمساواة بين الجنسين. وبسبب الأهمية الفائقة لهذا المحور تبنته الأمم المتحدة من خلال قرار الجمعية العامة في أيلول /سبتمبر 2015 بوصفه واحدا من أهداف التنمية المستدامة (2030) ، فجعلته الهدف الثامن ضمن أهدافها السبعة عشر، وربطت بينه وبين النمو الاقتصادي.
    وللأسف الشديد، ارتبطت الاحتفالات بهذا اليوم بانتشار كميات كبيرة من الصور والتقارير عن معاناة عمالنا العاملين في المشاريع الإسرائيلية، الصور تظهر آلاف العاملين مصطفين في طوابير القهر، لن نسميها طوابير الذل فالعمل من أجل تأمين لقمة الأطفال هو شرف عظيم، لكن الهدف الإسرائيلي من هذه الحواجز وبرمجة هذه الطوابير وتخطيطها لا ينفصل عن تقصّد وتعمد إذلال شعب باكمله. وهذا المشهد اليومي يتكرر عند كافة المعابر والحواجز ونقاط التفتيش، وفي مكاتب الارتباط حيث تقدم المعاملات والتصاريح. ومع الفارق الجوهري في المعنى والدلالة والمعاملة، بتنا مؤخرا نرى هذا المشهد الذي لا يتناسب مع الكرامة في مكاتبنا نحن، وتحديدا في مبنى الغرفة التجارية في غزة حيث يتزاحم عشرات آلاف العمال للحصول على تصريح عمل من السبعة آلاف تصريح التي وعدت سلطات الاحتلال بتقديمها للتخفيف من معاناة الفلسطينيين في قطاع غزة، قبل ذلك رأينا مشاهد مشابهة في قاعة وزارة الشؤون المدنية عند الحديث عن موافقة إسرائيل على طلبات جمع الشمل لخمسة آلاف فلسطيني.
    طوابير القهر لا تقتصر على العمال وحدهم، فهي تشمل عادة المتوجهين للقدس والداخل، لأسباب صحية أو عائلية أو تجارية، والطلاب والمواطنين العاديين في ذهابهم وإيابهم اليومي، والمسافرين عبر الجسر، وعبر الحواجز المفصلية مثل حاجزي "الكونتينر" و"زعترة" التي كثيرا ما تشهد عمليات إعدام ميداني وقتل خارج نطاق القانون، ما يؤكد ان المسألة ليست إدارية فنية ولا هي أمنية، بل هي مسألة سياسية موجهة من قبل القيادات العليا لدولة الاحتلال التي تهدف لترويض الفلسطينيين، وزرع قناعات لديهم بأنهم أدنى مكانة من الإسرائيليين، وأن حياة الفلسطيني مربوطة بقرار الإسرائيلي.
    حين كانت سوق العمل الإسرائيلية مفتوحة نسبيا أمام عشرات آلاف العمال من قطاع غزة، كنت ترى المطاعم والمقاهي تفتح ابوابها في منطقة الشجاعية بين الثانية والثالثة فجرا، وآلاف العمال يفدون من مختلف مناطق القطاع فيتزودون بما تيسر، لكي يتسنى لهم وصول حاجز "إيريز" عند الرابعة، فتستغرقهم إجراءات التفتيش ساعتين او ثلاث، ليبدأوا بعدها يوم عمل في السابعة صباحا بعد ان يكونوا قد استنزفوا من حياتهم اليومية عدة ساعات على طريق الذهاب، ومثلها أو اقل قليلا في طريق العودة. نفس السيناريو كنت تراه في مفرق "قبسة" بين العيزرية- وابو ديس والآن عند حاجز الزعيّم، ونعلين، والقبة وغيرها.
     ساعات الانتظار والتفتيش هذه ربما تكون أقسى واصعب من ساعات العمل، وخاصة مع وجود عدد من أبراج المراقبة التي يشغلها جنود الاحتلال شاهري السلاح، لأن أية حركة غير طبيعية أو مفاجئة من العامل قد تكلف صاحبها حياته، ودعك من السؤال عن وجود مرافق صحية أو مقاعد للاستراحة أو مظلات تقي من المطر والشمس، أو أي شيء ذي صلة بالكرامة الإنسانية.
    ما يجري عند طوابير القهر، يجري ما هو أكثر منه فظاعة عند فتحات التهريب السرية، حيث المطاردة "الساخنة" والمغامرة بالحياة نفسها، والخضوع لسماسرة العمل وابتزاز المقاولين، ونقل العمال أحيانا في ظروف غير إنسانية ما يذكّرنا بجدران وخزان غسان كنفاني في "رجال في الشمس"، مع أن كل عمليات التهريب هذه تجري تحت سمع وبصر أجهزة الأمن الإسرائيلية ودولة الاحتلال، التي تدرك أن تهريب العمال جزء من اقتصاد التبعية.
    يبدو أن أحوال العمال الفلسطينيين لا تهم المنظمات الدولية بمن فيها النقابية العمالية كثيرا، يمكن أحيانا أن نسمع منها إدانات عن حوادث مقتل عمال وإصابات العمل، لكن عمليات القهر والإذلال اليومي لعشرات آلاف العمال (والعدد مرشح لمئات الآلاف بحسب خطط بينيت- لابيد- غانتس) باتت جزءا من يوميات الحياة في فلسطين التي لا تثير سوى الشفقة علينا والتعاطف معنا، ولا تستدعي تدخلا سياسيا ولا قانونيا ولا عقابا اقتصاديا من أي نوع.
    بالترابط والتزامن مع التهرب من حل الدولتين وتدمير مقوماته المادية، تبني إسرائيل باطراد وبإصرار ومثابرة بصرف النظر عن الحزب الحاكم، نظاما لتكريس التبعية بكل الوسائل، فهي تسيطر على الأرض والمياه والأجواء والموارد والحدود والمعابر والاستيراد والتصدير وأموال المقاصة، كما تتحكم بقوت يوم مئات آلاف الأسر الفلسطينية، ولعل إسرائيل تطمح إلى تحويل الأراضي الفلسطينية المحتلة إلى مجرد مكان سكن ومبيت للعمال الفلسطينيين الذين يقضون ما بين 8-10 ساعات في أماكن العمل وبين 5-6 ساعات في الذهاب والإياب، وهذا لا يتناقض مع وجود شرطة وإدارات محلية تتولى العناية ببعض شؤون هؤلاء السكان.
    نتفهم أن لا يسمعنا العالم حين لا نصرخ ولا نرفع صوتنا عن قهرنا اليومي، أما أن نواصل حياتنا كالمعتاد وكأن تحولات خطيرة لا تحدث، ومشروعا وطنيا كبيرا ينتكس، فنحتفل بيوم العمل اللائق ببعض ورش العمل والخطابات والرسائل، ونغض البصر والقلب عن طوابير القهر التي تتضخم كل يوم، ثم نمضي في إسباغ الفاظ وألقاب التبجيل "العثمنلية" من معالي وعطوفة وسعادة ودولة على مسؤولينا فذلك اشبه بالكوميديا السوداء.

    http://www.alhourriah.ps/article/71815