• مآسي الانقسام وحصار القطاع في صندوق الاقتراع!
    2021-03-08

    مع الانتخابات التشريعية الثانية في كانون الثاني (يناير) 2006، بدأ النظام السياسي يصاب بالتخلخل. فمنذ أن بات واضحاً أن حركة حماس هي التي فازت بأغلبية المجلس، وأنها المرشحة لتشكيل حكومة السلطة الفلسطينية، بدأ الرئيس عباس بتجريد مؤسسة رئاسة الحكومة من العديد من الصلاحيات الأمنية وغيرها، ويحيلها إلى مؤسسة رئاسة السلطة. هي الصلاحيات نفسها التي كانت موضع نزاع، بينه وبين الرئيس الراحل ياسر عرفات، حين تم الفصل بين مؤسستي الرئاسة والحكومة، وإعادة توزيع الصلاحيات والمهام على كل من المؤسستين.

    ومما لا شك فيه أن خطوة نزع الصلاحيات من الحكومة لصالح رئاسة السلطة، شكلت قضية خلاف بين الطرفين، بداية لسياسة تقوم على تفضيل الضفة الفلسطينية على قطاع غزة. وبدا واضحاً، وكأن الضفة باتت مسرحاً لفتح، وبات القطاع مسرحاً لحركة حماس.

    مع تشكيل حكومة إسماعيل هنية الأولى، بطابعها الحمساوي الكامل، بدأ القطاع يتعرض للمضايقات، بدت هي أقرب إلى الحصار غير المعلن، ولعل واقعة منع رئيس الحكومة هنية من دخول القطاع، عائداً من جولة خارجية، حاملاً معه حوالي 30 مليون دولار، جمعها في الجولة، وإلزامه بإيداع المبلغ في الأمانة العامة لجامعة الدول العربية، لحساب السلطة الفلسطينية (وهو رئيس حكومتها) ... تشكل دالة على طبيعة الأوضاع التي بدأ قطاع غزة في الانزلاق إليها، بفعل التصارع بين حركتي فتح وحماس.

    عندما وقع الانقلاب الدموي، في 14/6/2007، استفردت خلاله حماس في السيطرة على القطاع، وانشقت السلطة على نفسها، بدأ الحصار على القطاع يأخذ شكله المعلن، بذريعة فرض الحصار على حماس بعد أن نزعت عنها الشرعية المؤسساتية، وصارت سلطة الأمر الواقع، وباتت الحالة الفلسطينية أمام نظامين سياسيين، واحد في الضفة والآخر في القطاع، يتنازعان الشرعية، وأمام مجلسين تشريعيين، كل منهما ينزع الشرعية عن الآخر.

    أغلق معبر رفح بعد أن انسحبت منه عناصر الشرطة التابعة لحكومة رام الله، وانسحب منه المراقبون الأوروبيون، وتعطل بروتوكول 2005، الخاص بإدارة المعبر.

    كذلك أغلقت إسرائيل معابرها الستة مع القطاع، الذي وقع خلف حصار، ما زال مستمراً، بأشكال مختلفة منذ 15 عاماً، شهد فيه الوضع الاقتصادي اختناقات، وارتفعت خلاله البطالة، خاصة بين الشباب وخريجي الجامعات، وتدهورت أوضاع البنية التحتية، وأصيب قطاع الصناعة والتجارة بأضرار فادحة، وارتفع الغلاء، كما هبطت آلاف العائلات تحت خط الفقر، فضلاً عما أصاب الإدارة العامة من فوضى وارتباك شديدين، حين ألزمت الحكومة، في رام الله، الموظفين في القطاع، والموالين لها أو من هم على ملاكها، إلى الامتناع عن العمل، ما دفع حركة حماس لملء الفراغات بالموالين لها، فضلاً عما لحق بالقطاع من كوارث إنسانية على يد الاحتلال الإسرائيلي الذي شنّ عليه حروبه الدموية والمدمرة، مستفيداً من حالة الانقسام، ومن إدراج المقاومة الفلسطينية على لائحة الإرهاب.

                

    الانقسام تحول إلى حرب بين الطرفين، اتخذت أشكالاً مختلفة من الاعتقالات والاعتقالات المضادة، إلى تبادل الاتهامات السياسية العنيفة، بما في ذلك يحمل كل طرف للآخر مسؤولية فرض الحصار على قطاع غزة.

    حماس من جهتها حملت السلطة، في رام الله، المسؤولية الرئيسية عن الحصار على القطاع، واتهمتها أنها ضالعة في شراكة مع دولة الاحتلال، في إغلاق المعابر، التي كانت الطريق لإمداد القطاع بالوقود والمواد الغذائية والمواد الأولية للبناء والصناعة والطريق لتصدير منتجات القطاع، بما فيها الزراعية، كالفراولة والبندورة العنقودية والأزهار والورود وغيرها. كما كانت تتهمها كذلك بالشراكة مع الأمن المصري في إغلاق معبر رفح أمام المسافرين والمرضى والطلبة الدارسين في الخارج. كما اتهمتها على الدوام بحرمان القطاع من حقوقه المالية في موازنات السلطة، واتهمت وزارات السلطة بالتقاعس عن أداء واجباتها، خاصة وزارة الصحة، وامتناعها عن تزويد مستشفيات القطاع بالمواد والأدوات اللازمة لإدامة خدماتها، خاصة في فترات التوتر الأمني والعدوان الإسرائيلي على القطاع.

    من جهتها، اتهمت السلطة الفلسطينية حركة حماس بالسطو على المال العام، وإغراق الدوائر الرسمية بالآلاف من الموظفين الموالين لها، وفرض الضرائب الباهظة على المواطنين، دون تقديم خدمات مقابلها، وسن قوانين مخالفة للنظام الأساسي للسلطة، مع تأكيدها، غير المنقطع، أنها لم تتوقف عن صرف حاجة القطاع من الموازنة العامة، وإن كانت السلطة، في الوقت نفسه، لم توضح كيف صرفت هذه الأموال، وكيف أوصلتها إلى القطاع.

              

    عندما عاد الطرفان، فتح وحماس، إلى طاولة الحوار، لإنهاء الانقسام، دون النجاح في الالتزام (من الطرفين) بما تمّ الاتفاق عليه، برزت إلى السطح الملفات الشائكة التي خلفها الانقسام، وهي، في معظمها، يقع حلها على عاتق السلطة الفلسطينية وحكومة رام الله، منها على سبيل المثال: قضية التقاعد المبكر الذي فرض على العسكريين وغيرهم، أو الذين طلب إليهم الامتناع عن العمل مع حماس، ومنها تفريغات 2005، التي لم تعترف السلطة، بوضعهم القانوني، وكذلك المئات من الموظفين الموالين لفتح الذين غادروا القطاع هرباً من مطاردة حماس لهم، فانقطعت رواتبهم بقرارات إدارية. ومنهم كذلك من حرموا من حقهم في التدرج الوظيفي، بذريعة أنهم خارج الدوام، وهم في معظمهم من الذين طلب إليهم الامتناع عن العمل ومقاطعة إدارة حماس للقطاع.

    حماس من جهتها حملت السلطة مسؤولية هذه الملفات، وامتنعت عن حلها لأن معظم، إن لم يكن أصحابها كلهم، من الموالين لفتح، أو لفصائل في م. ت. ف. بينما تجاهلت فتح والسلطة في رام الله هذه الملفات وما حملته من قضايا، وفي تصورها أن إبقاء هذه الملفات معلقة، من شأنه أن يحدث الاضطراب الاجتماعي في القطاع، ما من شأنه أن يربك حركة حماس، وسلطة الأمر الواقع التي أنشأتها.

    لكن ما أضعف حركة فتح، وأضعف حجتها، أن قيادة فتح في القطاع، باتت هي الباب الذي يطرقه المتضررون، أصحاب الملفات المعلقة، ما أحرج القيادة الفتحاوية في القطاع، وأضعفها في أعين مواليها، ما اضطرها لأكثر من مرة لأن تجاري قاعدتها، وأن تصرح محملة السلطة في رام الله مسؤولية حل هذه القضايا، معتقدة أنها في ذلك تكون قد خففت من الضغط الشعبي الذي كان يمارس عليها.

    وعود كثيرة أطلقتها السلطة الفلسطينية في رام الله، لحل هذه القضايا، دون أن تجد هذه الوعود طريقها إلى التطبيق، وبات واضحاً أن لا نيّة لدى السلطة للوفاء بوعودها، لتجعل من هذه الملفات ضغوطاً على حماس، تدفعها مع ضغوط أخرى، لتسليم مفاتيح السلطة، في القطاع إلى حكومة رام الله، في سياق تطبيق الاتفاقات الثنائية والجماعية، وآخرها اتفاق عام 2017.

              

    المنعطف الذي حشر حركة فتح (قبل أن يحشر السلطة نفسها) في الزاوية الضيقة، هو مرسوم الانتخابات في 15/1/2021، وهو استحقاق كبير تنظر إليه حركة فتح باعتباره استفتاء على شرعية سلطتها، في التنافس مع حركة حماس، خاصة وأن الطرفين يدعيان أن الانتخابات التشريعية (تحديداً) هي المدخل لإنهاء الانقسام، وأن من يفوز بالأغلبية هو المؤهل لترأس حكومة السلطة الجديدة (وإن كانت قد دعيت مسبقاً بحكومة الوحدة الوطنية) والتي ستشرف على توحيد مؤسسات السلطة، ما يعني، عملنا، أنه لو فازت فتح، فإن حركة حماس سوف تسلم مقاليد قطاع غزة للسلطة في رام الله.

    فتح، المطمئنة إلى نفوذها في رام الله (كما عبّر عن ذلك كبار مسؤوليها) أحست بعدم الاطمئنان إلى نفوذها في القطاع، وأقرت في تلك اللحظة، بعد طول ممانعة وإنكار، عن مسؤوليتها عن الملفات العالقة في القطاع. لذلك بادرت إلى تشكيل لجنة ثلاثية من بين أعضاء لجنتها المركزية، لدراسة الملفات العالقة في القطاع، وهي في أغلبيتها الساحقة للموالين لفتح، وتقديم التوصيات لحلها.

    الملاحظ في السياق، أن المرجعية الرسمية والقانونية لهذه الملفات هي حكومة السلطة، برئاسة محمد اشتيه، وأن الحكومة لم تناقش هذا الأمر، وأن أياً من أعضاء اللجنة الثلاثة، يملك الصفة الرسمية التي تخوله أن يبت بملفات وقضايا تعود مسؤوليتها إلى السلطة الفلسطينية، وأن هذا، وإن كان يدل على شيء، فهو يدل على أمرين اثنين: الأول أن اللجنة المركزية لحركة فتح أحلت نفسها محل الحكومة الفلسطينية، ومارست دورها باعتبارها سلطة تتجاوز السلطة الرسمية. والثاني أن اللجنة المركزية لفتح في حملتها الانتخابية تسخر منافع السلطة الفلسطينية وإدارتها في خدمة مصالحها الانتخابية. وفي الحالتين تكون فتح قد خرقت قانون الانتخابات الذي يحرم استغلال مؤسسات السلطة في الانتخابات، والذي يحرم استخدام المال السياسي لشراء ولاءات الناخبين. كل هذا في ظل صمت من حكومة السلطة (ذات اللون الفتحاوي الفاقع) واللجنة المركزية للانتخابات.

    اللجنة الثلاثية المشكلة من اللجنة المركزية لفتح، زارت قطاع غزة والتقت ممثلي المتضررين من قرارات السلطة وإجراءاتها، وقدمت الوعود، وحملت الاقتراحات إلى اللجنة المركزية باعتبارها هي صاحبة الأمر، والتي بإمكانها أن تلزم حكومة السلطة الفلسطينية، ومن ضمن التوصيات التي تمّ التفاهم حولها مع الأمن المصري فتح معبر رفح حتى إشعار آخر، في ظل سلطة حماس، ودون مشاركة المراقبين الأوروبيين، وقدمت فتح هذه الخطوة باعتبارها واحدة من ثمرات جهودها مع الجانب المصري.

         

    بقرارات نافذة من اللجنة المركزية لفتح، أحيل تقرير اللجنة الثلاثية إلى حكومة السلطة الفلسطينية التي بادرت على الفور، بتعليمات عليا، إلى إلغاء كل القرارات السابقة التي أدت إلى حرمان الموظفين في قطاع غزة وولادة المشكلة الاجتماعية، والتي اندرجت في إطار تداعيات الانقسام بين فتح وحماس.

    وبناء على معلومات نقلها موقع «دنيا الوطن» (3/3/2021) عن مصدر «فلسطيني مطلع» فإن الحكومة الفلسطينية سارعت، دفعة واحدة إلى تسوية 6900 ملف تقاعد مالي، في قطاع غزة، بالإضافة إلى فروقات الراتب للموظفين الحكوميين.

    ونقل «دنيا الوطن» عن المصدر «الذي فضل عدم ذكر اسمه» بأن تسوية التقاعد المالي ورواتب الموظفين كلفت خزينة السلطة الفلسطينية 42 مليون شيكل شهرياً، أي نحو 140 مليون دولار سنوياً.

    في الإطار نفسه أكد روحي فتوح، عضو اللجنة المركزية لحركة فتح، ورئيس وفدها الثلاثي إلى غزة، أن فتح عازمة (من خلال الحكومة) على حل قضايا تفريغات 2005 وباقي التفريغات، وأن الملف أحيل إلى الدراسة لوضع حلول الحد الأدنى. الأمر الذي أثار ريبة أصحاب القضية الذين ردوا على فتوح طالبين بالحقوق كاملة، وعادوا إلى التحرك الميداني، والاعتصام، في ساحات مدينة غزة احتجاجاً على «التلكؤ» في حل قضاياهم.

    ولعل التمييز بين ملف أصحاب التقاعد المالي الإداري، الذين حلت قضيتهم سريعاً، وبين ملف تفريغات 2005، تقف خلفه المصالح الفئوية، خاصة وقد بات مؤكداً أن أصحاب الفئة الأولى هم في غالبيتهم العظمى من الموالين لفتح، وتثق الحركة بأن أصواتهم الانتخابية سوف تصب لصالحها، وأن أصحاب تفريغات 2005 ينتمون إلى أكثر من طرف و تيار، وبالتالي فإن فائدتهم الانتخابية أقل بكثير من فائدة أصحاب الملف الأول.

         

    وإذا كانت فتح قد استغلت مأساة قضية الموظفين، ولجأت إلى حلها بنفوذها الكاسح في حكومة السلطة، كسباً للمزيد من أصوات الناخبين (وعائلاتهم) فإن حماس هي الأخرى، لم تكن بعيدة عن سياسة المناورات السياسية الكبرى، لضمان توفير شروط فوزها في الانتخابات. وواحدة من هذه المناورات الكبرى، الضغوط التي مارستها على الجانبين الإسرائيلي والقطري، لتجديد المنحة القطرية السنوية لحماس. فقد لجأت حماس إلى إعادة تفعيل مجموعات «الإزعاج الليلي»، ومجموعات «البالونات الحارقة» في شرق القطاع، وتوتير العلاقة مع الجانب الإسرائيلي في مغامرة، كادت أن تجر المنطقة إلى حرب عدوانية جديدة. وقد قابلت إسرائيل هذه التحركات بتهديدات صريحة وواضحة، وحشد عسكري على خطوط التماس مع القطاع وساد قلق عميق في المنطقة من إمكانية انفجار الوضع. إلى أن تم التوصل إلى «توافق» ثلاثي، بين حماس، وإسرائيل وقطر، على تجديد المنحة القطرية لحماس، وقيمتها السنوية 360 مليون دولار، ستتوزع بين رواتب لموظفين حماس ومقاتليها، و«مساعدات» اجتماعية لقواعدها الانتخابية، ولتسديد فواتير الكهرباء والماء وغيرها، للجانب الإسرائيلي، وتعيد حماس جمع رسومها من المواطنين دورياً.

    وهكذا تكون حماس قد توسلت التوتير الأمني والعسكري لتعزيز ارجيحتها الانتخابية.

            

    ولعل من أهم ما يمكن أن تخلص إليه في عرضنا هذا هو التالي:

    • اعتراف فتح بأن الحصار على القطاع لم يكن إسرائيلياً فقط، وأن السلطة الفلسطينية، بتوجيه من حركة فتح، كانت مسؤولة عن بعض إجراءات الحصار.

    • أن فتح تعمل على استغلال مأساة قطاع غزة، لترميم شعبيتها الانتخابية، مسخرة في ذلك نفوذها في السلطة الفلسطينية وهيمنتها على المؤسسات العامة.

    • أن فتح وحماس، بسلوكهما، اعترفا ضمناً بمسؤوليتهما عمّا لحق القطاع من كوارث، بفعل الانقسام الذي شكّل مبرراً لدولة الاحتلال، لتعمق مأساته. وأن الطرفين، فتح وحماس، يحاولان أن يرمما، معاً، شعبية كل منهما الانتخابية، كل بأسلوبه، وعلى طريقته.

    ... أخيراً، وليس آخراً، إن هذا يؤكد، مرة أخرى، أننا أمام انتخابات تشريعية، تنعدم فيها حالة التكافؤ في الفرص، وبالتالي فإن شفافيتها ونزاهتها، وديمقراطيتها، هي في واقع الحال مسألة نسبية


    http://www.alhourriah.ps/article/67795