• في الإنتخابات الأميركية والتطبيع، وتداعياتهما فلسطينياً
    2020-12-09

    [■ على خلفية الإنقلاب القيادي الفلسطيني على قرار 19/5/2020 بالتحلل من الإلتزامات والإتفاقات والتفاهمات مع الحكومتين الإسرائيلية والأميركية، ثمة تطورات، إن بالصلة مع نتائج الإنتخابات الرئاسية الأميركية، أو بنتيجة تغييرات معيّنة في المحيط الإقليمي، تستوجب الوقوف أمامها، لما تفرضه على القضية الفلسطينية ومسارها السياسي من تحديات. وفي هذا الإطار نشير إلى محطتين:

    ·        المحطة الأولى وقد ضج بها العالم كله، هي حسم المرشح الديمقراطي جو بايدن السباق على السلطة في مواجهة الرئيس ترامب، الذي مازال يعاند الاعتراف بالهزيمة، ويصر على الامتناع عن حزم حقائبه لمغادرة البيت الأبيض. وفي هذا السياق نشير إلى استئناف العلاقات مع المرشح الفائز عبر برقية بعثها الرئيس أبو مازن إلى بايدن مهنئاً، حملت في طيّاتها نفحة من التفاؤل، حاولت أن تعكسها بعض التصريحات المقرَّبة من حركة فتح، تحدثت عن إتصالات مع الرئيس المنتخب سبقت الإنتخابات.

    ·        أما المحطة الثانية، فهي موجة الانزياح لدى بعض العواصم العربية نحو التطبيع وعقد شراكات سياسية وأمنية واقتصادية وثقافية مع دولة الاحتلال والاستعمار الاستيطاني، وتبشير الدوائر الإسرائيلية والأميركية بقرب انخراط خمس عواصم عربية أخرى في موجة التطبيع هذه، جاهر بعضها إدعاءً، وبلهجة لا تخلو من الصفاقة، بأن التطبيع يدرأ عن الأوضاع الفلسطينية مخاطر الضم، لا بل هو يفتح على إمكانية لعب الأنظمة المُطبعة دوراً إيجابياً في خدمة النضال الوطني الفلسطيني]

    (1)

    الانتخابات الأميركية وتداعياتها

    عاش العالم كله أياماً في حُمَّى متابعة الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة، بمقدماتها ومساراتها الصاخبة، إن في الاحتراب الإعلامي بين الرئيس ترامب ومنافسه بايدن، أو في المناظرات التلڤزيونية التي وصفتها دوائر متابِعة في الولايات المتحدة بأنها أسوأ ما شهدته البلاد من مناظرات، مُحَمِّلة الرئيس ترامب القسط الأكبر من المسؤولية.

    وكما توعَّد ترامب، فإنه اتخذ من نتائج الانتخابات موقفاً شديد السلبية، طعن بنتائجها في العديد من الولايات، لتبرير هزيمته، وكسب الوقت دون جدوى للمشاغبة والتعطيل على خصمه الديمقراطي، ما أغضب النخب السياسية في الولايات المتحدة من ديمقراطيين، وكذلك جمهوريين، اتهموه بمحاولة ما أسموه «الإساءة إلى الديمقراطية الأميركية»، ما دعا العديد من المراقبين إلى التساؤل عن آثار هذا الانقسام الكبير في تَقَبُّلْ نتائج الانتخابات على وحدة المجتمع الأميركي، وعلى مساراته السياسية في المديين القريب والمتوسط.

    وإن كانت كل هذه التداعيات ذات شأن «داخلي» خاص بالولايات المتحدة، غير أنها ستنداح بنتائجها على العالم كله، نظراً للموقع الذي تحتله واشنطن في السياسة الدولية، في الميادين كافة، ولارتباط مصالحها الإمبريالية بالعديد من المناطق في العالم، ومنها إقليم الشرق الأوسط، والقضية الفلسطينية استتباعاً، حيث طُرح السؤال التالي بشقيه: «ماهي السياسات المتوقعة من بايدن نحو القضية الفلسطينية، وبالمقابل، كيف يتعاطى الفلسطينيون (والمقصود المؤسسة الرسمية الفلسطينية) مع الإدارة الأميركية الجديدة؟»

    لاشك في أن الشعب الفلسطيني(وغيره من شعوب كثيرة في العالم) تنفس الصعداء، وهو يتابع هزيمة ترامب، وإن كان مازال معانداً في الاعتراف بهزيمته. فلقد ألحقت سياسة ترامب بالقضية والحقوق الوطنية الفلسطينية أضراراً كبرى، لا تساويها في حجم الأضرار التي ألحقتها الإدارات الأميركية السابقة سوى إدارة هاري ترومان (1945- 1953) التي رعت ولادة دولة إسرائيل، ووفرت لها الغطاء السياسي وكل أشكال الدعم، وجعلت منها دولة بقوة الأمر الواقع، رغم انتهاكها الفاضح لقرارات الشرعية الدولية وقوانينها، وما ارتكبته بحق شعبنا من مجازر فضحها «المؤرخون الجدد» في إسرائيل، ومازال بعضها طي الكتمان.

    كذلك تقف على ذات السوية من السوء، ومن حيث حجم الأضرار التي ألحقتها بالقضية الفلسطينية والمنطقة، إدارة ليندون جونسون(1963- 1969) التي تم الإعداد لحرب الـ 67، في غرفة عملياتها في البيت الأبيض، ما يجعلنا نقول: مع ترومان قامت إسرائيل الأولى، ومع جونسون وبنتائج الحرب والاستيلاء على كامل الأرض الفلسطينية وسيناء وهضبة الجولان، قامت إسرائيل الثانية.

    فوز الديمقراطي ونائب الرئيس السابق أوباما، جو بايدن، في الإنتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة – 3/11/2020، فتح الأبواب على مصراعيها لقراءة، بشكل خاص، سياسته المرتقبة في الشرق الأوسط. ليس المقصود بذلك القضية الفلسطينية وحدها. فبعد صفقة القرن لم تعد القضية الفلسطينية هي وحدها، ولا «الصراع العربي - الإسرائيلي» هو وحده القضية الشائكة في المنطقة، بل اصطفت إلى جانبها قضايا أخرى، لم تعد تقل عنها سخونة، وإن لم تضاهيها أهمية، هي قضايا النزاع مع إيران، الذي تصاعد بشكل خاص بعد إقدام ترامب من جانب واحد، على إلغاء الإتفاق حول المشروع النووي في إيران (العائد إلى العام 2015 في فترة الولاية الثانية لأوباما، والذي استغرق التوصل إليه 12 عاماً!)؛ وباعتبار إيران التي تتعرض على يد واشنطن إلى حصار إقتصادي شديد القسوة، هي «محور التهديد الرئيس» لمصالح الولايات المتحدة الأميركية في المنطقة، و«الدولة الحاضنة» لما يسمى - بادعاءات الأجندة الأميركية – بالإرهاب(!).

    إلى هذا نضيف القضايا الشائكة الناجمة عن الوجود الأميركي في العراق وسوريا، وأفغانستان، ودور الناتو في البحر الأبيض المتوسط، بما في ذلك موقع تركيا في عداد هذا الحلف، وبشكل خاص العلاقات الأميركية والأوروبية – التركية..

    مثل هذه القراءة تحتاج إلى معالجة خاصة، لذلك سنقصر قراءتنا هنا على التوجهات الأميركية الجديدة، المحتملة، إزاء القضية الفلسطينية.

    ما يمكن الإستدلال من خلاله في تقديراتنا، لموقف إدارة بايدن من القضية الفلسطينية، مصدران رسميان:

    ·        الأول هو تصريحات كامالا هاريس، نائبة الرئيس المنتخب التي تحدثت بوضوح عما يمكن للرئيس الجديد أن يفعله، خلافاً لما أقدم عليه فريق ترامب. وفي هذا السياق، تحدثت عن سلسلة من الخطوات الإجرائية، أهمها العودة إلى الإلتزام المالي نحو وكالة الغوث، والإلتزام المالي نحو السلطة الفلسطينية مع التقيّد بقانون تايلور – فورس، إلى جانب دعم الأجهزة الأمنية الفلسطينية بشكل خاص، وإعادة فتح القنصلية الأميركية في القدس الشرقية التي أغلقها ترامب وألحقها بالسفارة الأميركية في القدس الغربية، [وإن عادت بعض التصريحات تتحدث عن مكتب إتصال ليس إلا، لا تتوفر فيه مرافق القنصلية كالمعتاد، ولا يؤثر على صلاحيات السفارة الأميركية في القدس التي وحدها، ولا أحد سواها، تجسد التمثيل الدبلوماسي في دولة الكيان]، وإعادة فتح مفوضية م.ت.ف في واشنطن، والعودة إلى اعتماد «حل الدولتين»، بديلاً لرؤية ترامب – نتنياهو، من خلال إعادة إحياء المسار التفاوضي من بوابة الرباعية الدولية (الولايات المتحدة + روسيا + الإتحاد الأوروبي + الأمم المتحدة).

    ·        إن الخطوات الإجرائية التي وعدت بها هاريس، إنما هي خطوات تمهيدية لإعادة مياه العلاقات الأميركية - الفلسطينية إلى ما كانت عليه قبل مجيء ترامب، وبما يمهد إلى العودة إلى إحياء المسار التفاوضي دون أية ملامح واضحة، سوى الحديث العام عما يُسمَّى «التطلعات المشروعة للفلسطينيين» وعن «حل الدولتين»، الذي ما زال لا يعرّف فحوى الدولة الفلسطينية وجوهرها وعلاماتها السيادية، ولا يحدد عاصمتها ولا حدودها، بل يكتفي بالحديث العام، متجاهلاً في الوقت نفسه قضية اللاجئين الفلسطينيين.

    ·        الثاني، ما كتبه بايدن في مجلة «الفورين بوليسي» في آذار (مارس) 2020، في شرح سياسته حين الفوز في الإنتخابات. الملاحظ أنه أشار بوضوح إلى أن إدارته ستنهمك في مطلع ولايتها بمعالجة الأوضاع الداخلية في الولايات المتحدة، بما فيه جائحة كوڤيد-19، ومعالجة ما أحدثه فيها ترامب من عبث وإخلال بالعلاقات المجتمعية. أما في حديثه عن دور الولايات المتحدة في العالم فلم يأتِ على ذكر الشرق الأوسط، إلا من خلال عبارة واحدة، أكد فيها حرصه على «ضمان أمن إسرائيل».

    إذا أخذنا، إلى ما سبق، طبيعة الوجوه التي أخذ يكشف عنها بايدن لتولي المهام في إدارته الجديدة، نلاحظ أنه استعاد أنتوني بلينكن وزيراً للخارجية [نائب جون كيري، وزير خارجية أوباما في ولايته الثانية]. لكن هذا لا يعني على الاطلاق أن إدارة بايدن ستكون في امتداد إدارة أوباما، وأن بلينكن سيكرر سياسة كيري.

    نحن أمام إدارة جديدة، في ظروف سياسية إقليمية جديدة، في عالم دخلت فيه العلاقات الدولية مرحلة جديدة، في وضع عربي شهد تحولات كبرى في العلاقات بين بعض دوله، وبين إسرائيل، وفي طبيعة نظامه السياسي، وموقع جامعته العربية، فضلاً عن أننا أمام وضع فلسطيني وإسرائيلي «جديد»، تركت فيه صفقة ترامب آثارها وعلاماتها البارزة، إن في العلاقات الثنائية، أو بما يتعلق بالأوضاع الفلسطينية الداخلية. وهذا كله يضع مجمل الحالة الفلسطينية أمام تحدٍ كبير، في كيفية التعامل مع الإدارة الأميركية الجديدة.

      من هنا، فإن الحكمة السياسية، والواجب والحرص الوطني، توجب التعامل بحذر مع الإدارة الأميركية الجديدة وعلى القاعدة التالية: ننفتح على الحلول، أو المقترحات، أو المشاريع، التي قد تتقدم بها هذه الإدارة، بقدر ما تلتزم، تعاطياً وتطبيقاً، بقرارات الشرعية الدولية المتعلقة بالحقوق الوطنية الثابتة لشعب فلسطين.

    نقول هذا مع التأكيد على الاستدراك التالي: كان يمكن للحالة الفلسطينية، في ضوء الخطوات التي خطتها بعد 19/5 في العلاقة مع دولة الاحتلال، أن تقدم نفسها بقدر من القوة يُمكِّنها أن ترتقي إلى حد ما بموقعها ووزنها في علاقات القوى، ما يُمكنها أن تتحاور مع الإدارة الجديدة، وتعلن رأيها بصوت أعلى في مشاريعها واقتراحاتها. لكن خطوة الانقلاب على ما تم التوافق عليه في 19/5، واستتباعاً في 3/9، بين الفصائل الفلسطينية، وعودة السلطة الفلسطينية إلى استئناف العلاقات مع الاحتلال بما في ذلك التنسيق الأمني، خطوة أحدثت شرخاً في الحالة الفلسطينية، وزرعت العوائق في إمكانية استكمال الحوار الوطني من أجل إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة الداخلية، الأمر الذي أضعف الحالة الفلسطينية وأعادها إلى مربع الانقسامات السياسية، فخسرت السلطة الفلسطينية، التي تَسَرَّعت في خطواتها للتقرب من الإدارة الأميركية الجديدة، العديد من عناصر القوة الداخلية.

    كذلك لا بد من التنويه هنا، أن الإدارة الأميركية الجديدة، كما بات واضحاً، لا تضع القضية الفلسطينية ضمن أولوياتها الملحة، ما يعني أن أمام الحالة الفلسطينية فترة من الزمن، تبقى فيه في مربع الانتظار.

    إن ما يبعث على القلق الشديد، هو أن السلطة الفلسطينية، بدلاً من أن تغتنم هذا الوقت في تجميع عناصر القوة في مواجهة السياسة الأميركية المرتقبة، بدأت منذ الآن تقدم التنازلات المجانية، من خلال انكفائها عما تم التوافق عليه وطنياً، في المجلس الوطني ودورات المجلس المركزي، واجتماعات اللجنة التنفيذية، والاجتماعات القيادية ومخرجات إجتماع الأمناء العامين، والهرولة غير المبررة والمؤذية والضارة نحو الرباعية الدولية، كي تستعيد الأخيرة دورها

    (2)

    التطبيع العربي - الإسرائيلي

    في سياق التجاذب الإقليمي في المنطقة، وبشكل خاص، بين الجمهورية الإسلامية في إيران وبين عدد من دول الخليج، وبعد سنوات من العلاقات الموصولة، إنما غير المعلنة بين إسرائيل وعدد من العواصم الخليجية، إنطلقت موجة من التطبيع والشراكة الرسمية مع إسرائيل، شملت دولة الإمارات العربية المتحدة، ومملكة البحرين، والسودان، ما أحدث خلخلة في النظام السياسي العربي، وردات فعل صاخبة في الحالة الفلسطينية، رأت في هذه الموجة إنقلاباً على مبادرة السلام العربية (بيروت - 2002) وقرارات القمم العربية والإسلامية، التي رهنت تطبيع العلاقة مع إسرائيل بانسحاب قوات الإحتلال من الأراضي العربية المحتلة عام 67، والتوافق على «حل عادل ومتفق عليه» لقضية اللاجئين الفلسطينيين.

    لم يكن خافياً أن موجة التطبيع هذه، إنما تندرج في تطبيق المسار الإقليمي لصفقة القرن، فقد نمت برعاية مباشرة من الولايات المتحدة. وكان لافتاً أن الإعلان عن كل خطوة تطبيعية جديدة إنما صدر عن البيت الأبيض، في بيان ثلاثي، جمع في كل مرة الراعي الأميركي وطرفي التطبيع. وقد حاولت الولايات المتحدة وإسرائيل إثارة موجة عالية من الضغط على بعض العواصم العربية، حين أعلنت كل منهما أن عدداً من الدول العربية، لا تقل عن خمس، سوف تلتحق بقطار التطبيع قبل إنتهاء ولاية ترامب. كما أن سفير الولايات المتحدة في إسرائيل، ديڤيد فريدمان، إعترف، بصراحة متناهية، أن ما يجري هو تطبيق لصفقة القرن، وأن الولايات المتحدة وإسرائيل علقتا الترسيم القانوني لخطة الضم، لصالح ومقابل خطوات التطبيع العربي - الإسرائيلي. ويمكن لنا أن نقرأ خطوات التطبيع والشراكة هذه من أكثر من زاوية، منها:

    ·        على الصعيد الأميركي، كان لافتاً أن إدارة ترامب، التي فشلت في العديد من الملفات الدولية، وجدت في منطقتنا الساحة المثلى لتحقق مكاسب أميركية - إسرائيلية، تخدم الحملة الإنتخابية لترامب، وتسهم في تقديمه إلى الرأي العام الأميركي صاحب سياسات خارجية ناجحة، إنطلاقاً من أن منطقة الشرق الأوسط، شكلت –إلى حد ما- الإقليم شبه الوحيد الذي حققّ فيه ترامب ما يمكن أن يسمى بالإنجازات، من خلال صفقة القرن والتطبيع، و«رؤيته» لحل الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي.

    ·        على الصعيد الإسرائيلي، في تطبيق «رؤية ترامب»، شهدت العلاقات مع واشنطن تبايناً في آليات تطبيق «الرؤية». ففي الوقت الذي كانت الولايات المتحدة تسعى لأن يكون الضم حصيلة مفاوضات إسرائيلية – فلسطينية، للوصول إلى «الحل الدائم»، عمدت حكومة الثنائي نتنياهو – غانتس، وفي إطار بناء الوقائع على الأرض، إلى الشروع في تطبيق خطة الضم، عبر سلسلة من الأساليب والآليات المختلفة، بعضها في توسيع مشاريع الإستيطان، وبعضها الآخر في الإسراع بعملية التهويد (القدس – الخليل بشكل خاص)، وبعضها الآخر عبر سلسلة من الإجراءات الإدارية، أو القانونية (وفق المقياس الإستيطاني) لفرض «السيادة» الإسرائيلية على أجزاء واسعة من الضفة الغربية، تجاوزت في مساحتها ما ورد في رؤية «ترامب»، فحافظت آلة الضم الإسرائيلي على نشاطيتها، من جهة، وانطلقت الدبلوماسية الإسرائيلية، بقيادة نتنياهو شخصياً، في استغلال الضغط الأميركي على العواصم العربية لجرها إلى مستنقع التطبيع والشراكة، من جهة أخرى، وهو ما يكذب إدعاءات أطراف التطبيع أن الخطوة هذه تمت مقابل تعليق العمل بخطط الضم.

    ·        على الصعيد الإقليمي، وقعت خطوات التطبيع لتحدث خللاً في التوازنات بين المحاور المتصارعة، وأحدثت تطوراً جيوسياسياً بارزاً، انتقلت فيه إسرائيل بتحالفاتها مع دولة الإمارات، ومملكة البحرين، إلى شواطيء الخليج، وباتت طرفاً شريكاً في الإشراف على مدخله عبر مضيق هرمز، من خلال المعاهدات الأمنية مع أبو ظبي

    (3)

    تداعيات التطبيع عربياً

    على الصعيد العربي، فقد أحدث التطبيع خلخلة أوسع في النظام العربي تمثل في أكثر من تطور:

    ·        أطاحت هذه الخطوة بمبادرة السلام العربية – 2002، وأبرزت هشاشتها، وأفرغتها من محتواها، وحولتها إلى مجرد عنوان بلا مضمون، وأكدت تغليب «رؤية» نتنياهو لتطبيق المبادرة على «الرؤية» العربية. فتقدم التطبيع، كما كان يدعو له نتنياهو، على الإنسحاب الإسرائيلي من الأراضي العربية المحتلة، الذي طويت صفحته. وبالتالي، إذا كانت المبادرة العربية قد دخلت الموت السريري منذ زمن غير قصير، فإن خطوتي الإمارات والبحرين دفنتها، وأهالت التراب عليها. وفي هذا السياق نلاحظ، كيف أن الخطاب الرسمي الفلسطيني، وهو يدعو للمفاوضات، بدأ يتجاهل المبادرة العربية كإحدى مرجعيات العملية السياسية، التي كان – فيما مضى - يدعو لها ويتمسك بها.

    ·        أبرزت مدى هشاشة الموقف العربي الرسمي من القضية الفلسطينية، ومدى زيف التزامها السياسي والقانوني والأخلاقي للقضية والحقوق الوطنية الفلسطينية. فقد خطت العواصم المذكورة (المنامة – أبوظبي- الخرطوم) نحو التطبيع، متجاهلة الإجراءات والخطوات الأميركية – الإسرائيلية المناقضة تماماً لمبادرة السلام للمبادرة العربية وقرارات القمم العربية والإسلامية، كالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، والاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على الجولان السوري المحتل، والاعتراف بشرعية الاستيطان، والصمت عن تصريحات وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو، ورئيس حكومة دولة الاحتلال، في اعتبار الضفة الغربية «أرض إسرائيل» ونزع الصفة القانونية عنها أرضاً فلسطينية تحت الاحتلال، وإسقاط حق العودة للاجئين الفلسطينيين.

    ·        أدخلت جامعة الدول العربية في أزمة مستعصية، حين انحازت، تحت الضغط الخليجي، لصالح تيار التطبيع، ورفضت كل الاقتراحات الفلسطينية التي يمكن أن يُشتم منها، ولو الحد الأدنى، من الاشارات إلى التطبيع الجديد. وكأن جامعة الدول العربية، بتجاهلها للتطبيع، تكون قد أسبغت شرعيتها عليه، فخرج من دائرة التحريم، ليدخل في دائرة العمل المشروع بدعوى «الحق السيادي للدول العربية في رسم قراراتها وسياساتها». وقد تمثلت أزمة الجامعة بتخلي دولة فلسطين عن حقها في الرئاسة الدورية لمجلس الجامعة، ورفض دول أخرى آلية التسلسل في المسؤولية، لإدراكها حجم التعقيدات التي سترافقه، فتقدمت القاهرة لتحمل المسؤولية، باعتبارها البلد المضيف للجامعة، وفي محاولة واهنة لسد الفجوة الكبرى التي أحدثتها خطوات التطبيع.

    ·        على الصعيد العربي، أيضاً، دخلت العلاقات العربية البينية مرحلة غامضة، يسودها الشك المتبادل، تراجعت فيه مجالات التعاون الثنائي، لصالح المزيد من اتفاقات التعاون مع إسرائيل. إن أكثر الأمثلة وضوحاً هو مثال دولة الامارات، التي أزاحت، على سبيل المثال، كل العوائق بين أبوظبي وتل أبيب، في المجالات الاقتصادية والمالية والأمنية والثقافية، والنقل وغيره، وأغلقت الأبواب أمام مواطني عدد من الدول العربية، ومازالت القطيعة تحكم علاقاتها مع دولة قطر. كما أن التطبيع الذي اتسعت دوائره سيعكس نفسه على حجم التبادلات التجارية، العربية – العربية، خاصة بين دول التطبيع والدول التي مازالت متمسكة بشروط مقاطعة التطبيع، بما في ذلك مقاطعة الشركات التي تتعامل مع دولة الاحتلال ولها فيها مصالح.

    لقد بدأ النظام العربي يشهد تحولات كبرى، هَشَّمَت الكثير من ملامحه، وجعلته، أكثر من أي وقت، عُرضة للرياح والعواصف والتيارات الجارفة، خاصة كلما ضغطت الولايات المتحدة لتمرير حلولها ومقترحاتها وسيناريوهاتها السياسية، إن في الشأن الاقليمي العام، أو في شأن القضية الفلسطينية والصراع مع إسرائيل

    )4)

    تداعيات التطبيع فلسطينياً

    على الصعيد الفلسطيني، كانت لخطوات التطبيع والإعلان (الكاذب) عن تعليق خطط الضم تداعيات كبرى:

    ·         فعلى صعيد العلاقات الثنائية، بين السلطة الفلسطينية ودول التطبيع، وجدت السلطة الفلسطينية نفسها مُقيَّدة بعدد من العوامل والعناصر المعقدة، بما في ذلك مراعاة مصالح الجاليات الفلسطينية في دول التطبيع، منعاً لتكرار كارثة خروج الفلسطينيين من الكويت، إبَّان حرب الخليج الأولى. دون أن نغفل التقدير القائل بأن السلطة، وهي تتخذ هذا الموقف السليم (إلى حدٍّ ما)، حاولت أن تتسلل منه للحفاظ على علاقاتها مع عواصم التطبيع، في إطار السياسات التكتيكية الضيقة وقصيرة النفس التي تتبعها السلطة، في البحث عن مدخل لاستئناف المفاوضات الثنائية تحت رعاية الرباعية الدولية.

    ·         أضعف قرار العودة إلى مسار أوسلو، بشقيه الأمني والتفاوضي، السلطة الفلسطينية في معارضتها للتطبيع مع إسرائيل، ودفاعها عن المبادرة العربية - 2002. إذ ذهب كثيرون لجعل هذا القرار غطاءً لتبرير التطبيع مع إسرائيل.

    ·         جعلت السلطة الفلسطينية من تطورات التطبيع، مدخلاً لاستعادة علاقاتها مع العواصم الأعضاء في اللجنة الرباعية العربية، المعنية، بتكليف من جامعة الدول العربية، بمتابعة القضية الفلسطينية (مصر + الأردن + الإمارات + السعودية)، فانفتحت مرة أخرى على بعض هذه الدول، بعد 9 أشهر من «الانعزال»، بهدف التحضير لاستقبال المبادرة الأميركية المرتقبة لإحياء المسار التفاوضي وفق «حل الدولتين»، وتوفير «الغطاء العربي» لعودة السلطة الفلسطينية إلى مسار أوسلو، في استعادة منها لآليات عمل وتحركات اعتمدتها في سنوات سابقة، جعلت من «الرباعية العربية» مرجعية للقرار الفلسطيني، بديلاً للمرجعية الفلسطينية، ممثلة باللجنة التنفيذية.

    كخلاصة يمكن القول إن عودة السلطة الفلسطينية إلى مسار أوسلو، بشقيه الأمني والتفاوضي، أضعفت المعارضة للتطبيع والمناهضة له، وأكدت، إلى حدٍّ كبير، أن السلطة الفلسطينية، في مسارها الجديد، إقتربت على نحو ملحوظ من المحور العربي الأكثر رخاوة في تعاطيه مع القضية الفلسطينية ودولة الاحتلال، والأكثر استعداداً للضغط على الجانب الفلسطيني، للتقرب من الحلول والسيناريوهات الأميركية، حرصاً على صون علاقاته مع واشنطن، وصون مصالحه الفئوية والطبقية الضيقة، دوماً على حساب المصالح القومية والوطنية لشعوب المنطقة العربية، وفي القلب منها الشعب الفلسطيني.

    في سياق رسم الموقف الوطني المطلوب من خطوات التطبيع، لا بد من إبداء ملاحظتين:

    ·        الأولى: تدعو للتمييز بين خطوات التطبيع بين دولة الإمارات العربية ومملكة البحرين وإسرائيل، وبين خطوة السودان المماثلة. فخطوات الإمارات والبحرين تندرج في سياق صراع وتحالفات إقليمية دولية، تشكل تطبيقاً صريحاً لصفقة القرن في مسارها الإقليمي، الداعي إلى إقامة حلف إسرائيلي – عربي ترعاه الولايات المتحدة في مواجهة إيران، وفي إطار تهميش القضية الوطنية الفلسطينية. ولم يكن بالمقابل يشكل حاجة وطنية لا للبحرين ولا لدولة الإمارات، لا أمنياً، ولا إقتصادياً، ولا ثقافياً؛ بل على العكس من ذلك، إذ تبين، عبر الخطوات التطبيقية لإتفاقات التطبيع، أن معظم المكاسب كانت كلها إسرائيلية؛ وكانت كلها في الميادين كافة في خدمة المشروع الإسرائيلي.

    أما بشأن السودان فإننا نرى أن الأمر مختلف تماماً. فالسودان يعيش مخاضاً سياسياً عاصفاً بعد نجاح ثورته الشعبية في الإطاحة بالنظام السابق، وعلى رأسه عمر البشير. وقد تبين حجم الخلافات بين أركان النظام الجديد في مرحلته الإنتقالية في العديد من القضايا المصيرية التي ترسم مستقبل الثورة الشعبية وأهدافها.

    خطوة التطبيع إندرجت في إطار هذه الخلافات، بين مجلس السيادة الذي يهيمن عليه العسكر، وبين الحكومة السودانية التي تتمتع فيه قوى الحرية والتغيير بنفوذ ملحوظ. وفضلاً عن الخلافات القانونية حول صلاحية مجلس السيادة في إنجاز خطوة التطبيع، فإن العديد من القوى الوطنية واليسارية والديمقراطية والإسلامية في السودان، اتخذت موقفاً وطنياً وقومياً مشرفاً، رفضت فيه هذه الخطوة.

    وإذا كان مجلس السيادة قد برر هذه الخطوة بأنها نزول عند شرط أميركي لرفع السودان عن قائمة الدول الراعية للإرهاب، فإن القوى الفلسطينية مدعوة للوقف إلى جانب قوى الحراك الشعبي السوداني في  رفضها، للتطبيع، وعدم التسليم بأن خطوة التطبيع باتت خطوة نهائية لا عودة عنها؛ كما هي مدعوة في الوقت نفسه لإدانة سياسة البلطجة والإبتزاز الأميركية التي تلجأ إلى «العقوبات» الإقتصادية وأشكال الحصار والضغط، لجر الدول العربية إلى مستنقع الحلول الأميركية لقضايا المنطقة.

    ·        أما الملاحظة الثانية فهي: أثبتت التجربة عدم جدوى الرهان الرسمي الفلسطيني على الدول العربية – الجامعة العربية خاصة، واللجنة الرباعية العربية المنبثقة عن مجلسها– للتقدم على طريق إنجاز الحقوق الوطنية. فقد خذل النظام العربي الرسمي – مرة أخرى - شعبنا الفلسطيني، ما يؤكد صحة الدعوة وصحة السياسة القائمة على الرهان – طويل الأمد - على الحراك الشعبي العربي، في مشرق المنطقة، ومغربها، بإعتباره الرهان الوطني، في رؤية تربط جدلياً بين المصالح الوطنية، والمصالح القومية للشعوب العربية؛ فالنضال لإقامة الدولة الوطنية والعدالة الإجتماعية، مرتبط بشكل وثيق بالنضال من أجل التحرر من التبعية للولايات المتحدة، وإلحاق الهزيمة بالمشروع الصهيوني، وإنقاذ المنطقة من خطره على مصالح شعوبها


    http://www.alhourriah.ps/article/66143