• آن الاوان للتعامل مع إسرائيل بطريقة مختلفة!
    2018-11-25
    (1) رسم معادلة جديدة
         ليست المرة الأولى التي تثبت فيها غزة أنها عصية على التطويع أو الكسر، رغم الثمن الفادح الذي تتكبده في كل جولة، سواء في المواجهات العسكرية أو في مسلسل الحصار الطويل، لكنها نجحت أن تنشئ واقعا تكتيكيا مختلفا.
    وبعيدا عن المغالاة أو شهوة اللحظة، هناك الكثير من الدروس التي يمكن استخلاصها، والتي ينبغي تعميمها على الحالة الوطنية، فهذه الجولة هي ضمن جولات سبقت، وأخرى قد تليها، ربما تختلف في شكلها ومضمونها، لكنها تصب في اتجاه واحد، وهي ضرورة رسم معادلة جديدة لإدارة الصراع مع الاحتلال والخروج من حالة (التكرار) والاستنزاف وتسجيل نقاط جديدة.
    إن الإحساس بالنشوة وتحقيق مكتسب جزئي لا يعني التوقف وعدم التفكير في استثمار ما حدث لأجل خطوات أكبر وأكثر فاعلية.
    في هكذا حالات، يغلب على الجانب الفلسطيني طابع النشوة والهيجان العاطفي وتحليل اللحظة بصورة مبالغة، في المقابل يغلب على الجانب الاسرائيلي طابع النقد والإحساس بالفشل عموما. وهذا يجب أن يعطي مؤشرا مهما أمام القيادات وأصحاب الرأي.
    (2) اسرائيل: بين العجز والإرباك
    المتابع للإعلام وكواليس السياسة الإسرائيلية يذهل من كم الإحساس بالإخفاق والفشل، فضلا عن الإحساس بالعجز الكبير عن حل معضلة غزة، لدرجة أن الكثير من الكتاب والمحللين صوروها بأنها (العضمة) التي تقف في حلق الدولة العبرية، فلا هي قادرة على ابتلاعها، ولا على قذفها. ومع قوة الإحساس بالألم والفشل، هناك من يدعو إلى اجترار الخيار العسكري مرة أخرى بشكل أشد قسوة يفضي إلى (كسر عظم) مع حماس، وهناك من قنع بأنه لا فائدة من الحل العسكري، ويجب تغليب الحل الإنساني.
    إن إسرائيل، رغم امتلاكها قدرات عسكرية هائلة، ومؤسسات مهنية للتخطيط، وائتلافا حكوميا مستقرا، إلا أنها تعيش حالة إرباك/عجز غير مسبوقة، تظهر مدى ضعفها عن مواجهة/معالجة بقعة جغرافية صغيرة ذات إمكانيات محدودة جدا.
    وهذه (فرصة) يجب استثمارها في استخلاص فن الضغط على إسرائيل بأدوات بسيطة لكنها منتجة. ليس معنى هذا أن إسرائيل ستسلم بسهولة أو ستتخلى عن تكتيكاتها العسكرية والأمنية تجاه قطاع غزة، وتجاه حماس على وجه الخصوص، بل ربما تفكر في حلول استراتيجية تقوم على تكثيف القوة العسكرية، واستعادة قوة الردع، وتضييق الخناق على حماس بصورة أكبر في حال جرت انتخابات، وعاد اليمين بتفويض آخر.
    غزة وضعت بشكل جدي على طاولة السياسيين والعسكريين والأمنيين لإيجاد مخرج، الخيارات محدودة جدا لكنها قد تحمل مضامين خطرة.
     الثابت والمعروف أن إسرائيل حينما تستشعر خطرا من منطقة ما لا تدع فيها مجالا للصدف، وأغلب ما تركز عليه جهودها هو تكثيف قدراتها الأمنية، وتوجيه ضربات مفاجئة والنيل من شخصيات مركزية.
     أقول للذين يحللون كثيرا ويسرحون كثيرا إن الدولة العبرية لا تعمل بردود أفعال أو لحسابات حزبية أو لتصدير أزمات سياسية داخلية بقدر ما تعكس المصالح الأمنية والسياسية لها، فمؤسسات مثل الجيش أو الشاباك (غير مسيسة) لا يمكن أن تعمل تحت وطأة الخلافات السياسية أو الحزبية.
    هذا الطرح لا يعني خلق حالة من الخوف أو الردع النفسي، أو أن إسرائيل قادرة على تحقيق ما تريد، لكنه يلفت إلى ضرورة التعامل مع هكذا مواقف بكثير من الرؤية المجردة البعيدة عن العواطف.
    (3) الفلسطينيون: الخروج من حالة التكرار
    هذا الواقع (جولات الصدام) الذي قد، بل بالتأكيد، سيتكرر مرة وثانية وعاشرة، يملي على الطرف الفلسطيني أن يفكر بجدية في الخروج من حالة (التكرار) والاستنزاف إلى فرض قواعد جديدة للتعامل مع الاحتلال الإسرائيلي، وإرغامه على عدم التمادي، ودفعه إلى تقديم أثمان تشعره بتكلفة مغامراته السياسية والعسكرية.
    إن ما يريح إسرائيل هو أنها تمارس القتل والإجرام والدمار (كما فعلت في مسيرات العودة)، ثم تطلب من جهات غيرها أن تقدم العون لقطاع غزة دون أن تتكلف شيئا، وهذه معادلة يجب أن تتغير، ويجب أن يفكر القائمون على أي مواجهة أو تفاوض أن يحملوا دولة الاحتلال ثمن جرائمها، وهناك الكثير من مساحات المناورة التي يمكن فرض فيها فرض شروط غير تقليدية.
    لقد ثبت، ومن خلال التجربة، أنه يمكن لجم الاحتلال من قبل قوة أقل منه بمئات المرات إذا توفرت الإرادة والحكمة. فقط فاقدو الحيلة والإرادة هم الذين يظنون أنه من المستحيل توجيه ضربات لإسرائيل أو فرض شروط عليها.
    لا أقول هذا الأمر بسبب الحادث الأخير، لكن هي قناعتي منذ زمن بعيد: أنه لو أحسنا إدارة الصراع على قاعدة امتلاك أوراق القوة والوحدة الوطنية والحكمة لكان من الممكن إحداث فروقات ضخمة في الأداء والنتائج، لكن مع الأسف إن الحالة الفلسطينية عملت في السابق بخلاف هذه القواعد، فكانت جهود وتضحيات كبيرة مع نتائج متواضعة.
    إن إسرائيل ليست (سوبرمان) وليست قوة لا تقهر، بل فيها كثير من نقاط الضعف التي يمكن الولوج إليها لو توفر الوعي في كيفية التعامل معها.
    لهذا لا ينبغي التعاطي مع المواجهة الأخيرة، أو غيرها، بالعواطف الجياشة و(العوم عليها) أو الوهم بأن القواعد كلها تغيرت، وأن مرحلة جديدة قد دشنت، بل يجب التفكير في كيفية البناء عليها، واستثمارها في تطوير وضبط الأداء الميداني، واستخدام اللغة السياسية القوية، والتمترس في خندق الموقف الوطني.
    إن لغة "السلام" الناعمة الطرية فاقدة الأسنان التي استخدمتها السلطة الفلسطينية في معالجة صراعها مع الاحتلال لم، ولا يمكن، أن تجبر الاحتلال على تقديم أي تنازل، بل على العكس، تفتح شهيته لمزيد من الاعتداء والاستهتار والاستخفاف بوجود الشعب الفلسطيني أصلا.
    كما أن لغة التهديدات الصاخبة، ولغة الوعيد ومنح الأماني الكبيرة بالنصر، والتجييش العاطفي التي استخدمتها الفصائل لم تعد مجدية في التقريب من لحظات النصر والتحرير.
    لقد قضينا سنوات نقارع هذا الاحتلال، باندفاع وعفوية ورغبة في التضحية، دون أن ندرسه جيدا، ونسبر غوره أو نعرف مكامن قوته وضعفه، ودون أن نفكر بجدية وواقعية في كيفية التقدم بخطى حثيثة لتحقيق نتائج ملموسة على الأرض.
    كل ما فكرنا فيه هو كيف نضحي، ونضحي فقط.
    آن الاوان أن نتعامل مع إسرائيل بطريقة مختلفة تماما، طريقة تقود إلى تحقيق نقاط متراكمة، وتخرج من حالة (الرد) إلى حالة (المبادرة)، ومن المعالجة (الإنسانية) إلى المعالجة (السياسية)، والأهم من ذلك الخروج من دائرة (غزة) إلى دائرة (الوطن).
    وكما يقال فهمك لنفسك يعطيك نصف النصر، وفهمك لعدوك يعطيك النصف الآخر.
    فهمنا لهذا العدو بشكل منهجي مجرد يمكن أن يمنحنا الكثير من نقاط القوة، ويفتح أمامنا آفاقا واسعة لتجنيد كل عوامل النجاح، أما الفهم الخاطئ فإنه يستهلك وقتا وجهدا دون فائدة.
    حركة فتح، ورغم تجربتها النضالية الكبيرة، فهمت خطأ أنه يمكن صنع السلام مع إسرائيل، وفهمت خطأ أن اللغة الناعمة والدبلوماسية مع محتل مجرم يمكن أن تحوله إلى(شريك)، وفهمت خطأ أن المجتمع الدولي بتفهمه لعدالة القضية الفلسطينية يمكن أن يقلب المعادلة، ويمارس الضغط على إسرائيل لتقديم تنازلات، وهكذا سلسلة طويلة من الأوهام والمفاهيم الخاطئة قادت إلى كارثة وطنية.
    أيضا الفصائل الفلسطينية وقعت في سلسلة أخطاء جسيمة، حينما اعتقدت أن القوة العسكرية وحدها يمكن أن تحسم المعركة. واعتقدت خطأ أن البرامج الحزبية المتناثرة يمكن أن تشكل مشروعا وطنيا. وفهمت خطأ أن إسرائيل يمكن أن تسلم وترفع الراية البيضاء لمجرد جولة هنا أو هناك.
    هناك حاجة ملحة وضرورية لتغيير منهج الصراع مع الاحتلال على قاعدة أن عدونا يمتلك الكثير من نقاط القوة والكثير من نقاط الضعف، وأن لدينا، أيضا، نقاط قوة وضعف.
     وهنا تبرز قدرة القيادات في توزيع البيادق في أماكنها الصحيحة، وإعادة ترتيب الأولويات، واستخدام الأدوات الصحيحة ذات التأثير، واستبعاد عوامل الضعف والفشل، واستخدام المنهج التراكمي في تحقيق الإنجازات.
    الخلاصة: من أجل هزيمة الاحتلال عمليا (وبالتدريج)، يجب أولا الخروج من حالة التكرار والاستنزاف والتوقف عند المنجزات المحدودة. وثانيا/الانطلاق بتفكير استراتيجي لترسيخ معادلة جديدة تقوم على استغلال نقاط الضعف لدى الاحتلال.

    http://www.alhourriah.ps/article/51650