• كلب التنسيق الأمنيّ: عن شخصيّة واحدة من رواية وليد دقّة
    2018-11-21

    لا تترك "حكاية سرّ الزيت" شخصيّة - أو موضوعًا - ذات بُعد واحد فقط. للحرّيّة في رواية وليد دقّة أوجه كثيرة، وللفقر أوجه كثيرة، وللشجاعة كذلك غير بُعد واحد. الشخصيّات - رغم عددها الكبير في الرواية ذات الصفحات الـ 95، كلّها تتحوّل وتحمل في مزاياها القبيحَ والجميل في الوقت ذاته.

    العصفور أبو ريشة حرّ الحركة لكنّه بلا عقل، القطّ خنفور يزهو بالكبرياء وسريع الغضب، لكنّه في الحقيقة في منتهى الحساسيّة، براط الحمار يُعاتب حَرِدًا طلبًا للاهتمام، ولكنّه في الوقت ذاته على قدر عالٍ من المسؤوليّة.

    هذه واحدة من المزايا الّتي تمنح الرواية جمالها وقوّتها: فيها ما يحرّر القارئ من التسطيح والقولبة، فيها ما يحرّر القارئ من حبس الواقع وظرفه، الّذي يحتّم عليه أن يرى المواضيع بتسطيح وبشكل أحاديّ البُعد؛ فالوهم الدراميّ يسرقنا من واقعنا، لكنّه لا يحرّرنا منه، إنّ ما يحرّر هو القدرة على التسامح مع الموضوعات؛ من خلال فهم العمق والتعقيد الكامن فيها. هذا النصّ الأدبيّ يضيف على كلّ رسم أحاديّ البُعد أبعادًا جديدة، تزيد عمقه وتركيبه، تزيد إنسانيّته؛ وهذا - في رأيي - شغل الأدب بعامّة.

     

    وصف تاريخيّ للفلسطينيّ

    لن أتطرّق إلى تفاصيل القصّة المركزيّة، في رواية اليافعين الصادرة عن "مؤسّسة تامر للتعليم المجتمعيّ"؛ لئلّا أفسد على القارئ متعة تناولها، بل سأتناول قصّة ثانويّة واحدة منها؛ لأبيّن كيف يستطيع دقّة؛ من خلال عمق الشخصيّات وتركيب قصّتها، أن يقدّم وصفًا تاريخيًّا للفلسطينيّ الّذي يختلف معه، وأن يعبّر عنه بدقيق التفاصيل، وأن يعاقبه في الوقت ذاته، لكن قبل ذلك، وباختصار: الرواية تحكي مغامرة الطفل جود؛ من أجل زيارة والده في السجن الإسرائيليّ، تلك الّتي ينطلق بها بمساعدة أصدقائه الحيوانات: العصفور أبو ريشة، والأرنب السمّور، والقطّ الخنفور، والحمار براط، وأُمّ رومي شجرة الزيتون. إنّ العلاقة الّتي يبنيها دقّة بين جود والطبيعة، والّتي تجعل الطفل جزءًا عضويًّا، لا يتجزّأ من الفعاليّة الطبيعيّة للنباتات والحيوانات والأرض، تخلق تمايزًا خلّابًا عن حديد القيود والمجسّات الإلكترونيّة الّتي يواجهها.

    من جماعة "التنسيق الأمنيّ"

    قصّة الكلب أبو ناب، واحدة من قصص الحيوانات الأكثر تفصيلًا في الرواية. وبينما يسعى جود بمرافقة أصدقائه إلى اجتياز جدار الفصل، ينصحهم القطّ الخنفور بطلب المساعدة من الكلب أبو ناب. منذ البداية، لا تثق الحيوانات بــ أبو ناب، واستغربوا من أن يثق القطّ بالكلب؛ إذ إنّ أبو ناب من جماعة "التنسيق الأمنيّ"، لكنّ هذا السبب ذاته ما يجعله أكثر معرفةً بسبل اجتياز الجدار، وعندما يُسأل القطّ عن سبب ثقته بـ أبو ناب يقول: "كلّنا بندوِّر على رزقنا تناكل (...) بيختلف عنّي بس بشاركني نفس الهمّ. الاحتلال والفقر خلّونا نتعوّد على أشياء غريبة، ونفقد إحساسنا ببعض، وتصير اللقمة كلّ همّنا، بدون ما نسأل من وين، ولا كيف، ولا شو الصحّ وشو الغلط".

    لكنّ الموضوع ليس بهذه البساطة؛ فإنّ قصّة خيانة أبو ناب وعمله في "التنسيق" أعقد من ذلك.

    يبدأ لقاء أبو ناب برسم الموقع الّذي يكون فيه: "أقرب للمستوطنة منها للقرية"، وهو هناك ينفّذ وظيفته في منع وصولهم إلى المستوطنة. "لوين رايحين؟ هذي الطريق مقطوعة، ومنّا وفوق المستوطنة". لكنّ نقطة الكسر الّتي تتخلخل فيها وظيفة أبو ناب، تكمن في اللحظة الّتي يتفاجأ فيها من أنّ الحيوانات آتية إليه، من أنّ جودًا، مثلًا، يسأله "ليش سمّوك أبو ناب؟". إنّ اللحظة الّتي يستفسر فيها جود عن قصّة أبو ناب، عن اسمه، عن شخصيّته، هي اللحظة الّتي تأخذ فيها العلاقة به طريقًا مختلفًا.

     

    أصل الخيانة

    هنا تبدأ قصّة أبو ناب، وهي في رأيي من أظرف الأوصاف للأجهزة الأمنيّة الفلسطينيّة وأحدّها وأدقّها؛ فيُعيد دقّة أصل هذه الخيانة إلى انتماء عشائريّ وأبويّ: كان كلب صيد لدى شيخ عشيرة "الجمّالين"، وقد خرج شيخ العشيرة يرافق ضبّاطًا من المخابرات في رحلة الصيد، وعندما أُعجب رجل المخابرات بذكاء الكلب قدّمه الشيخ له هديّة، كرم عربيّ كلاسيكيّ!

    إنّ ضابط المخابرات الّذي أُعجب بذكاء الكلب ألحقه بتدريبات خاصّة؛ لكشف الأسلحة والموادّ المتفجّرة، ثمّ التحق بدورة أمريكيّة خاصّة. لم يعد يكتشف المتفجّرات والأسلحة فحسب، "إنّما الأفكار الخطيرة أيضًا". في خلال الحوار معه، يُسأل أبو ناب عن سبب تسميته، فيقول إنّ الأمريكيّين كسروا أسنانه في أثناء التدريبات، وتركوا له نابًا واحدًا فقط. لماذا؟ يجيب الكلب: "حتّى أعضّ وما أعضّ، يعني أكون كلب ومش كلب، عمومًا اللّي قدرت أفهمه إنّه هذا كان شرط إسرائيليّ لالتحاقي بالدورة الأمريكيّة".

     

    "كان ضابط في المخابرات"

    نقطة لافتة أخرى، تأريخيّة بامتياز، وليس من السهل التقاطها، إلّا أنّ دقّة ينجح في تقديمها بسلاسة؛ فهو يطرح مسألة التأرجح بعد الانتفاضة بين أدوار المقاومة وعمل الأجهزة الأمنيّة، وفي مسألة دمج المطارَدين في الأجهزة الأمنيّة الفلسطينيّة؛ وهو ما شكّل هدفًا أساسيًّا لإسرائيل في سعيها إلى القضاء على الانتفاضة الثانية؛ وذلك إثر رؤيتها بمطارَدي الانتفاضة الأولى عاملًا أساسيًّا في إشعال الانتفاضة الثانية؛ فنعرف في الرواية أنّ الكلب أبو ناب يعرف السجين أبو جود؛ إذ كان قد خدمه ورفاقه بنقل بيانات القيادة الموحّدة في الانتفاضة الأولى، وهو ما حوّله مختفيًا في الجبال بعيدًا عن أعين الناس، إلى درجة أنّه يقضي أيّامًا بكاملها بلا طعام. إنّ واحدة من الشخصيّات الّتي يحكي عنها أبو ناب هي شخصيّة أحد الأسرى، حين "كان ضابط في المخابرات، لمّا شاف البيوت بتنهدّ على روس صحابها والبلد غرقت بالدم، ترك الجهاز وهرب وهرّبني معاه".

     

    "كلّنا بندوِّر على رزقنا تناكل"

    آخر ظهور للكلب في الرواية مركّب وغامض؛ فالكلب - الّذي رغم تاريخه في التنسيق الأمنيّ وخدمة الاحتلال - تحوّل إلى أحد العناصر الأهمّ في مغامرة جود البطوليّة، وكشف عن شجاعة وقدرة وذكاء، وصارت شخصيّته كاملة وقد تحرّرت من ماضيها السلبيّ.

    في أوّل حوار مع أبو ناب، سأله جود عن اسمه، عن سبب تسميته بهذا الاسم. وفي آخر ظهور للكلب، نراه يحاول تذكير والد جود بمساعدته لهم في أيّام الانتفاضة الأولى:

    "... وصديق إلك قديم، الكلب أبو ناب".

    "مين أبو ناب؟".

    أجابه أبو ناب وهو يخشى من أنّه لا يتذكّره:

    "أنا يا أبو جود، مش ذاكرني؟ لقّبتوني في الانتفاضة الأولى الشبح".

    قال أبو جود وهو يتذكّره بصعوبة: "الصوت مش غريب عليّ، آه تذكّرتك، ما تآخذني يا أبو ..."، فقاطعه جود قائلًا: "أبو ناب يابا، أبو ناب".

    في هذه السطور، يُغلق كلب التنسيق الأمنيّ دائرة وحدته، يعود إلى دوره الأوّل، منبوذًا في عزلته بين المستوطنة والقرية، بين اسمَي الشبح وأبو ناب، لا يتذكّره أبو جود فعلًا؛ لا كرهًا ولا حُبًّا. لقد انمحى ببساطة، ولم تعد قيمة حتّى لبطولته هذه.

    وإن كان جواب القطّ، عندما سألوه عن ثقته بالكلب يبدأ بجملة "كلّنا بندوِّر على رزقنا تناكل"، فقد كان آخر ذكر لهما في الرواية: "سكبوا علبتي التونة، ودفعوا بها عبر القضبان إلى حافّة الشبّاك، فالتهمها الخنفور، وأبو ناب الّذي شاركه الوجبة، وتبيّن أنّه ليس أقلّ جوعًا".

     


    http://www.alhourriah.ps/article/51621