• العودة إلى أوسلو من بوابة ترامب
    2018-03-21

    ■ منذ أكثر من ثلاثة أسابيع (وربما أكثر بقليل)، والإدارة الأميركية تتحدث عن قرب الإنتهاء من صياغة «صفقة العصر» لحل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وقرب موعد إطلاقها.
    هذه التصريحات، لا تنفي على الإطلاق، بل تحاول، عبر بعض التعمية، أن تغطي على مسألة مهمة، وهي: أن الصفقة باتت جاهزة، وأنها، وإن لم تعلن على الملأ، كفقرات وبنود، أخذت طريقها إلى التطبيق، كما أخذت تتسرب عبر بعض المصادر، إلى الجانب الفلسطيني، وبعض العواصم العربية، وعواصم الإتحاد الأوروبي. ولعل التقرير الذي قدمه صائب عريقات، أمين سر اللجنة التنفيذية، إلى رئيسه، عشية إنعقاد المجلس المركزي في 15/1/2018، والذي إستند إليه أبو مازن، في تناول مصير مدينة القدس، كما تريدها إدارة ترامب، إستند إلى تلك التسريبات، وبالتالي يمكن القول إن العناصر الكبرى لصفقة العصر لم تعد سراً، ولكنها، في الوقت نفسه، لم تصبح بعد، مشروعاً رسمياً، تتبناه الولايات المتحدة عبر مؤسساتها، وتطرحه كأساس لإستئناف العملية التفاوضية.
    صفقة العصر لم تعلن، إذن، ولكنها بالضرورة تشكل موضوعاً تشاورياً، إسرائيلياً، أميركياً. وكما تؤكد الوقائع، فإن التفاهم الأميركي الإسرائيلي، ليس فقط على العناصر الكبرى، بل وحتى على التفاصيل، وصل إلى أرقى مستوياته، وبحيث لم يعد الرئيس ترامب، وضيفه نتنياهو، يحتاجان لأكثر من ربع ساعة من الحوار والنقاش، لينجزا بحث الموضوع الفلسطيني، وينتقلا بعد ذلك إلى القضايا الأخرى، ومنها الملف النووي، والصناعات الصاروخية الإستراتيجية في إيران، وتواجد حزب الله في الجولان، وتطورات الأوضاع في الجنوب اللبناني.
    ما يلفت الأنظار، في كل هذا، هو الحديث الرسمي للرئيس ترامب، وللناطقين بإسم الخارجية الأميركية، في التأكيد على وجوب مشاركة الجانب الفلسطيني في المفاوضات في إطار هذه الصفقة. ترامب، كان شديد الوضوح، حين أكد أنه لا بد من إحضار الفلسطينيين إلى طاولة المفاوضات.
    وما يلفت الأنظار، أن هذا الكلام، ليس مجرد تصريحات تطلق هنا، وهناك، بل هو تعبير عن سياسة يتعاون فيها البيت الأبيض، مع الإتحاد الأوروبي، مع بعض العواصم العربية، لتوفير الظروف المناسبة لإحضار الجانب الفلسطيني إلى المفاوضات، ويتجاوز الشرطين اللذين طرحهما الرئيس عباس: عدم العودة إلى الرعاية المنفردة للولايات المتحدة للمفاوضات، وتراجع الإدارة الأميركية عن قرارها، (أو «تجميده») الإعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، ونقل سفارة الولايات المتحدة إليها. (عبارة «التجميد» وردت نصاً في خطاب أبو مازن في مجلس الأمن في 20/2/2018، و«التجميد» شيء، والإلغاء شيء آخر).
    *   *    *

    ما هي مطالب أبو مازن:
    • عدم العودة إلى الرعاية المنفردة للولايات المتحدة للمفاوضات.
    • «تجميد» القرار الأميركي بشأن مدينة القدس ونقل السفارة إليها.
    • إعتماد «حل الدولتين» عنواناً للحل مع إسرائيل.
    في الوقت نفسه، يؤكد أبو مازن، تمسكه بالمفاوضات خياراً وحيداً. ويؤكد إستعداده للسير إلى أبعد مكان للوصول إلى «حل سلمي» مع الجانب الإسرائيلي.
    ويؤكد رفضه لكل الخيارات البديلة، لخيار المفاوضات، وهو على إستعداد لتعطيل قرارات المجلس المركزي، وإدارة لعبة المماطة في الإيحاء بقرب تنفيذها، لذر الرماد في العيون الفلسطينية، ولإستعمال هذه القرارات (دون تنفيذها) أدوات ضغط للعودة إلى المفاوضات، وحل قضايا الوضع الدائم، كما نص عليها إتفاق أوسلو.
    هذا الكلام لا يغضب الأوروبيين، ولا يغضب العواصم العربية ذات الصلة، خاصة أن البديل للرعاية الأميركية المنفردة، هي رعاية «فريق دولي» تكون الولايات المتحدة طرفاً فيه. أي لن يكون هناك إستبعاد للولايات المتحدة، بل المطلوب إيجاد «رفقة» لها في إدارة المفاوضات، لا تلغي لا الأساس التفاوضي ولا مرجعيته، ولا آلياته، ولا يكون لهذا الفريق أية صلاحيات في إلزام إسرائيل بقرارات الشرعية الدولية، بما فيها الحد الأدنى، أي القرار 242 و 338.
    هذا الكلام من شأنه أن يبدو وكأنه أغلق الباب أمام الولايات المتحدة، لكنه في الواقع يقود الى نتيجتين:
    • الأولى أنه يفتح الباب لعودة أبو مازن الى المفاوضات، مع حفظ ماء الوجه، خاصة بعد أن وعد برد «صفقة العصر» على الوجه الأميركي (ثم تراجع عن ذلك بنصائح أوروبية عربية).
    • الثانية أنه يتيح للولايات المتحدة أن تستعيد موقعها (الذي لم نفقده أساساً) في إدارة العملية التفاوضية، ليس بالصيغة القديمة، بل مع «رفقة». لكن المفارقة هذه المرة تكمن في التالي: كانت الولايات المتحدة سابقاً منفردة، لكنها لم تقدم حلولاً ملزمة للجانب الفلسطيني، بل كانت تدير العملية التفاوضية مع تحيز للجانب الإسرائيلي. هذه المرة، قد تعود الولايات المتحدة الى رعاية المفاوضات، برفقة آخرين، لكن بمشروع «ملزم» للجانب الفلسطيني، ووظيفة المفاوضات ليس الوصول الى «حل توافقي» بل «التوافق على آليات الحل الأميركي».
    لذلك، يمكن تتبع «التطور» الأميركي في صياغة «صفقة العصر»، ويمكن ملاحظة مشاوراتها مع العواصم العربية، ومع الإتحاد الأوروبي، ويمكن ملاحظة في الوقت نفسه، تراجع أبو مازن عن التهجم على الولايات المتحدة وعلى إدارة ترامب، مع مواصلة إنتقاد «صفقة العصر» (مع التوقف عن التهديد برد الصفعة) وكذلك إستعداده المكشوف للعودة الى المفاوضات، تحت سقف أوسلو، كما جاء نصاً في خطابه في مجلس الأمن الدولي في 20/2/2018.
    *   *   *
    التصريحات الأميركية، والمشاورات الجارية، باتت تؤكد أن الولايات المتحدة أدخلت على صيغة «صفقة العصر» في طبعتها الأولى بعض التعديلات التي لا تمس العناصر الكبرى وهي:
    • أولاً بشأن «حل الدولتين»، عادت الولايات المتحدة، كما أوضح صائب عريقات في تصريحاته الأخيرة في شرح «الصفقة» الأميركية، الى مبدأ «حل الدولتين لشعبين». الدولة الإسرائيلية وطناً قومياً لليهود في العالم، والدولة الفلسطينية وطناً قومياً للفلسطينيين. وهذا الحل من شأنه أن يحمل في طياته تداعيات كبرى، في مقدمتها، إعادة رسم حدود إسرائيل (أي إلغاء حدود 4 حزيران لصالح التوسع الإسرائيلي) شطب حق العودة للاجئين. نقل سكان مثلث الجليل (أم الفحم ووادي عارة وغيرها) الى تخوم السلطة الفلسطينية. تشريع سياسة تجميع يهود العالم في إسرائيل، وتحويل السكان الفلسطينيين العرب في إسرائيل، الى مواطنين من الدرجة الثالثة أو الرابعة، أقلية قومية ودينية محرومة من حقوقها المميزة لها.
    أي في نهاية المطاف العودة الى الإعتراف بإسرائيل «دولة يهودية»، وهو الأمر الذي طلبت قيادات العمل الوطني الفلسطيني داخل إسرائيل، من القيادة الرسمية الفلسطينية، رفضه وحذرت من مخاطر الموافقة عليه بكل تداعياته الكارثية على المسألة الفلسطينية.
    • ثانياً: بشأن الرعاية من قبل «فريق دولي»، أكدت الولايات المتحدة أنها لا ترى مانعاً من إشتراك فريق دولي في الإشراف على المفاوضات في «اللحظة المناسبة». وكما بات واضحاً، فإن الولايات المتحدة تخطط فعلاً لعقد «مؤتمر دولي»، على غرار مؤتمر أنابوليس، أو مؤتمر باريس، تحت سقف إتفاق أوسلو، وليس تحت سقف الأمم المتحدة وقراراتها ذات الصلة بالقضية  والحقوق الوطنية الفلسطينية. وأن تشارك في «المؤتمر» اللجنة الرباعية (الولايات المتحدة، روسيا، الإتحاد الأوروبي، وممثل عن الأمين العام للأمم المتحدة) تضاف لها بعض الدول العربية، كمصر والأردن، والسعودية، وربما المغرب، الإمارات ولاحقاً السودان، والبحرين، الى جانب إسرائيل والفريق الفلسطيني. يعقد «المؤتمر» جلسة إفتتاحية أو اثنتين، ثم  ينقسم الى إطارين موازين:
    ــــــ إطار للمفاوضات الثنائية بين إسرائيل والفريق الفلسطيني لإستكمال مفاوضات أوسلو (كما نص عليها الإتفاق وأكدها خطاب عباس في مجلس الأمن). للوصول الى «حل الدولتين». بتداعياته المعروفة.
    ــــــ إطار إقليمي، إسرائيلي ــــ عربي، برعاية اللجنة الرباعية، لإستكمال خطوات التطبيع العربي ـــ الإسرائيلي، وتطبيع علاقات الدول المسلمة مع إسرائيل، وبحيث تكون إجراءات التطبيع جاهزة، أو حتى أخذت طريقها الى التنفيذ مع ولادة «الحل الفلسطيني ـــ الإسرائيلي»، وذلك عملاً بما سمي مبادرة السلام العربية (بيروت 2002).
    • ثالثاً: بما يتعلق بالقدس، ستكتفي السلطة الفلسطينية بالتصريح الأميركي الذي يقول إن الرئيس ترامب لم يحدد أين هي القدس التي إعترف بها عاصمة لإسرائيل، ولم يحدد أين هي القدس التي سوف ينقل سفارة بلاده إليها، وإن رسم حدود القدس اليهودية، والقدس العربية، سيكون واحداً من الموضوعات الرئيسية  على جدول أعمال المفاوضات الثنائية، وإن الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني هما المعنيان بتعريف «المدينتين» (القدس اليهودية والقدس العربية) ورسم الحدود كل منهما.
    ومع شيء من التظاهرات الإعلامية، التي قد تنشأ في بعض العواصم الدولية العربية، وتجد صداها في رام الله ووسائل إعلام السلطة، يتم تحضير المسرح السياسي للعودة الى المفاوضات، وبحيث تكون المسألة الفلسطينية قد قامت بدورة كبرى، إنطلقت في 6/12/2017، في رفضها قرار ترامب بشأن القدس، لتعود في تاريخ لاحق، للتعايش مع هذا القرار، والتراجع عن كل المواقف السابقة، وتجميد قرارات المجلس المركزي، والعودة غير المظفرة الى إتفاق أوسلو، وإلتزاماته السياسية والأمنية والإقتصادية التي لم تمس أصلاً، ومازالت تحتفظ ببريقها■


    http://www.alhourriah.ps/article/49500