20 نيسان 2024 الساعة 06:03

هُويةٌ بلا إعلام، إعلامٌ بلا هُوية

2021-03-01 عدد القراءات : 556

الاتجاه الديمقراطي (وكالات)

في بداية الألفية الجديدة، كتبتُ بحثاً حول الإعلام العالمي وهيمنة اللوبيات الصهيونية - نُشر في صحيفةٍ خليجية- كان حول خفايا الإعلام العالمي، تحديداً من خلال روبرت مردوخ إمبراطور الإعلام العالمي وهو صهيوني الانتماء، وقتها كانت مشاركةُ الوليد بن طلال في معرض ديزني لاند التي شهدتْ وقتها وبدعمٍ تمويلي من الاثنين، جناحاً ضخماً كان عنوانه حرفياً " القدس يهودية خلال ألفي عام"، وكانت رائحة أنظمة العرب بدورها تفوح خفيفةً من خلف تلك اللافتة.

يا لهول الخلاصة بعد بحثٍ طويل مضنٍ، يبدو العالم كله تقريباً بمن فيه أبناء جلدتنا، يسعى لمحو فلسطين وتاريخها وطمس هوية الشخصية الفلسطينية، وبالتالي الشعب الفلسطيني، هذه ليست مجرد فوبيا ناتجة عن عقدة الفلسطيني المُضطَهد، العالم كله، نعم وبكل دقة، فالمسألةُ معززةٌ بالأرقام والوقائع، بعضٌ من هذا العالم يمسح التاريخ أو يحرفه، الآخر بلهجةٍ مدروسةٍ جيداً، وبمفردات المُحب يختصر الجغرافيا بمبنى مسجد أو كنيسة أو بعناوين مفردات الخطابة ذات الرنين الشعبوي، والبعض ببساطةٍ وسلاسةٍ أيضا،ً يشيطن سمعة الفلسطيني عموماً، أما الصهيونية وعبر مخالبها وتفرعاتها الذكية، فقد جمعتْ ونظمتْ كل ذلك في دربٍ واحدٍ، مُلخصهُ وعنوانه محو فلسطين وشعبها وشرعنة احتلالها، بعد استكمال وهم إزالتها من أوراق الماضي والحاضر والمستقبل بكل الوسائل!

كان الجيلُ الأول- جيل النكبة- جيلَ ذاكرةٍ قريبةٍ متحسرة دامعة، الثاني جيل ثورةٍ وكفاحٍ وصل مداه إلى البعيد، والثالث- الشباب الحالي- جيلُ انتظارٍ عميق يحمل الكثيرَ من الألم واللوم، وربما بعض الضياع الآني - هذا توصيفٌ سريعٌ غير دقيق تماماً من حيث الزمن للتعاقب الجيلي-.

لدى كل فلسطيني تحول قهرُ الاقتلاع إلى ثقافةٍ وفلسفةِ ذاكرةٍ مرتبطةٍ بالهوية راسخة، ثم صار بفعل جهود محو الهوية تمسكاً وحنيناً أنتج بالتالي جيلاً مقاتلاً، واليوم تهيم مرحلة تحضُّر وتحضير هادئة وأكثر عمقاً لقفزةٍ جديدة أخرى، هذا ما يُستشف من التململ والسخط، وهو يبدو في الأفق الغائم الصورة لمن أراد الغوص في عمقه!

لم يخسر الفلسطينيون لأنهم لم يضحوا أو تقاعسوا أو لأنهم لم ينضجوا سياسياً، بل بسبب غياب اللّبِنة الاستراتيجية، ومن أهم بنودها المنظومة الإعلامية الذكية، كما لم تربح العصابات النازية الصهيونية بسبب قوتها العسكرية والاقتصادية والسياسية، بل لترتيبها أولاً- إلى جانب مسائل أخرى- أولويات وميكانيزم الاغتصاب، أي باعتماد الخطة الاستراتيجية وبمنظومة هيمنةٍ إعلاميةٍ عالميةٍ عبقرية في الواقع يُشهدُ لها لدقتها ومواظبتها، هذه المنظومة هي التي أسست للقوة المالية المميزة وليس العكس، والتي بدأتها الصهيونية منذ صدور كتاب عن ثيودور هرتزل الكاتب الصحفي الركيك، بل كان الكتاب الركيك بدايةً هو أحد مرتكزاتها، هذه هي الحقيقة المُرة بالنسبة لنا.

من بديهيات التجارب التاريخية، أن أية ثورة أو حركة تحرر، أو مقاومة مهما عظمت تضحياتها أو علا شأنها، لن تنتصر ما لم تدرك الأهمية القصوى للفكر والإعلام والثقافة وسطوة السينما والفنون والآداب، قبل الشؤون والبنية السياسية والعسكرية، فهذه العناصر هي من يحقق لها السطوة الإعلامية، وتتعاضد كلها مع بعضها فتُنتج بالتالي الانتشار والتأييد العالمي والإقليمي، والدعم المتنوع وتفتح لها بالتالي خطَ الدفاع الخلفي الواسع العميق على مصراعيه، وليس الخطابة الرنانة، ولا العلاقات السياسية البروتوكولية، ولا حتى التضحيات وحدها، وهو الأمر الذي فهمه تماماً عظماءُ أُولٌ كثرٌ في التاريخ الحديث، ربما من المهم أن نُذكِّرَ هنا ب غسان كنفاني مثلاً لذلك، لكن تجاربهم بقيت هم ومن قبلهم وكذا تنظيراتهم تتوقف عندهم، بقيت نصوصاً وأفكاراً لم تتحول إلى واقعٍ برامجيٍّ مستديم... يستوجب القولُ ذاتَه بوضوحٍ ومباشرة – بخاصة في هذه الأيام-: لن ينتصر شعبٌ أو مقاومة تفضل مؤتمراً خطابياً على فيلمٍ سينمائي.

 السؤال المحير لأيٍّ من الدارسين، أيُعقل بعد هذه التجربة بتضحياتها وخساراتها وانتصاراتها أن الفلسطينيين لم يدركوا بعد أهمية العمل الإعلامي؟ أو لنقل ببساطةٍ أشد، المعادلة البديهية التي تقول بأن الإعلامَ يصنع ثمراتِ النضال السياسة، وليس العكس، وضمن مفهوم الجدلية، أليس من الغريب أن يكون الإعلام عموماً غير مهنيٍ وسطحيٍ، وهو يمتلك في الوقت ذاته في جنباته أمهر الإعلاميين؟!

 سوف أضرب هنا مثلا بسيطاً قريباً زمنياً، فقد سربت النازية الصهيونية منذ أيامٍ قليلةٍ خبراً يفيد بأن نساءَ الموساد هنَّ من أنجزن التطبيع مع الأنظمة فلهن الفضل الأكبر، وقد تم تكريم العديد منهن وتوسيمهن، هكذا جاء الخبر في الإعلام العبري.

بهذه الطريقة استقبل العقلُ العربيُ النخبوي والشعبي الخبر السابق: "يا للهول! الحكام مارسوا الجنس مع فتيات الموساد، هؤلاء زناة وووو"، ويبدأ التعليق من قبل سياسيين ومثقفين بطريقة "يا عيب ويا حرام"، وهكذا يتم فهمُ الخبر البسيط الصفراوي كما أُريدَ له من قبل من بثه الذكي، أي ليس كما هو وإنما ما تُخفيه مهارةُ الحِرفيَّة المُبطَّنة.

الإشارة الأولى المقصودة بالنسبة للكيان، هي أن فتيات الموساد الجميلات ذكياتٌ مناضلاتٌ في سبيل كيانهن "دولتهن" ودينهن وعملهن، ها هنَّ يضحين بأجسادهن لمصلحة "إسرائيل"- هذا مأرب داخلي-، في حين يضحي الزعماء العرب بشعوبهم وأوطانهم ودينهم مقابل لحظة لذةٍ ربما هذا صحيح – تحطيم نفسي للشعوب العربية-  نعم لكن ليس هذا هو القصد الأولويُّ، هو أحد المقاصد الثانوية، في الواقع القصد الأهم هو الرسالة المباشرة للأنظمة المطبعة سراً وعلانية ومفادها "إن تراجعتم عن تأدية الدور المنوط بكم فسنفتح ملفاتكم الفضائحية، وربما من خلال فيديوهاتٍ مسجلةٍ في أوضاعٍ معينة، أي هي وسيلة تهديدٍ وضغطٍ وكذلك وسيلة تحقيرٍ نفسيٍ للمطبعين ذاتهم، الذين لا بُدَّ قد اصفرت وجوههم عند قراءة الخبر فهلعوا من الفضيحة، ثم قرروا أن يزيدوا في وضعيةَ الانبطاح لئلا يحدث ذلك، وهو ما مارسته اللوبياتُ الصهيونية وعصاباتُ استخباراتها في غير مكان، حتى في الولايات المتحدة ذاتها اتجاه شخصيات عدة.

كما -وفي السياق- يجب الانتباهُ إلى حقيقةِ أن الصهيونية تسعى في فلسفتها الإعلامية إلى تحويل قضية الصراع باتجاه التفكير في الحل وليس في المشكلة- القضية، ومآسي واقع المنطقة لا أسبابها ومسببها، بل هي تحيل الضحية إلى أحد أو كل الأسباب "تعميم مدروس"، وهكذا يتم ثقب الذاكرة والواقع في آنٍ معاً.

وهكذا ينسى الفلسطينيون غالباً فحوى قضيتهم العميق، وهو أنها بالدرجة الأولى قضية نضالٍ إنسانيٍ وقيمي وأخلاقي وقانوني، إلى جانب كونها قضيةٍ سياسية أو دينية.

 وهنا وجب التذكيرُ بقاعدةٍ في هذا الشأن، فكلما نهضت المنظومةُ الأخلاقية، وتنامت أهمية القيم الأخلاقية تراجعتْ وخسرت الصهيونية من رصيدها العالمي، ولا بد من الإشارة هنا أيضاً إلى أنه ليس غريباً ملاحظة حقيقة أن كل مجرمٍ وقاتلٍ وتاجر مخدراتٍ ورجلَ دينٍ منافقٍ أو سياسيٍّ فا،سد هو حليفٌ بالضرورة للصهيونية وكيانها ومشتقاته، حتى وإن لم يكن مرتبطاً بها مباشرة، فهو لن يكون في الخندق الآخر وهذا استثناء ضعيف بدوره!

لكن ما الذي يصنع حلقة التواصل التلقائي هذا؟ ليس كما يُظن كثيرٌ بأنها أجهزة المخابرات والعلاقات الاقتصادية، فالأمر يبدأ أولاً وأخيراً بالإعلام الذكي، إذ لا يمكن تجنيدُ أحدٍ ما لم يتم ترويج فكرة استسهال التجنيد وفخامة المجنِّد، وخلق المبررات والدوافع عبر وسائلَ إعلاميةٍ ذكية وغير مباشرة على الإطلاق، عربياً يتم البدء غالباً بديمقراطية "إسرائيل" ودكتاتورية الأنظمة العربية، دعم الجماعات المتأسلمة ثم المقارنة بينها وبين أساليب القتل الصهيوني- ذكر الإرهابي شارون يوماً عبارةً، وصفَ خلالها عملاءَه وصنيعتَه من القوات اللبنانية إثر مجزرة صبرا وشاتيلا بقوله: "إنهم يقتلون ويذبحون ثم يقبلون أيدي النساء بأناقة" هكذا يبدؤون ثم يذهب الأمرُ فيما بعد نحو الاقتصاد والعمران والتشارك وو، هكذا يتم التخطيط لتطويع الثقافة، نجح في أوروبا واليوم يسري على العرب وبعض الفلسطينيين...

لكن، هل أمكنَ أو سيُمكن تطويعُ العقلِ الفلسطينيِ والعربي عبر وسائل إعلام أو اقتصاد مثلاً؟

هذا سؤالٌ يمتلك خطورته بذاته، فالتحولاتُ الدراماتيكية التي نشهدها في هذه الفترة قد تودي بدولٍ وأنظمة ٍوعقائدَ دينيةٍ وكيانات، بوادرها باتت خطيرةً في الخليج العربي – هيمنة صهيونية اقتصادية في دبي- لكنها بالنسبة لفلسطين تبدو غائمة ضعيفة التأثير والنتائج، بسبب اتضاح التجربة والصراع المباشر والأهم قوة ثقافة الهوية.

 فالفلسطينيُ ليس بحاجةٍ لوسائلَ إعلام، ليدركَ وحشيةَ وإرهابَ النازية الصهيونية، هو على تماسٍ مع ذلك يومياً، وليس بحاجةٍ لوسائل إيضاحٍ لرؤيتها أو تفسيرها، كما لا يمكن أن تُشوشَ بالتالي رؤيته تلميعات الإشاعة وفخامة وحنكة وسائل الإعلام، أما بالنسبة للعربي خارج فلسطين فإن ذلك ممكن نسبياً وخاصةً بمساعدة الأنظمة التواطئية.

هنا تبرز في الوقت عينه، أسئلةٌ اشكالية هيمنة العقل السياسي على الإعلامي الفلسطيني، فهو يفكر بطريقة "ماذا سأقول" في حين العقل الصهيوني يعمل بطريقة "كيف سأقول" وهذا هو الصحيح تقنياً– إعلامياً لا أخلاقياً على الأقل- لهذا ينجحون باستمرار ونفشل دائماً، يقولون المزيف بأناقة وحكمة، ونقول الحقيقة بسطحية وتخشب وخطابة وبيانات.

 إن أولَ ما يفتقده العقل الإعلامي الفلسطيني- وليس وحده- هو النزعة الحداثوية، وهذا الفقدان هو الوصفة الناجعة للتقهقر الدائم، أو لنقل عدم إبراز الصورة بشكلها الصحيح، وهو ما ينتج بالضرورة الإشكالية الأخرى، وهي أننا لا نفكر جدياً في سُبل الخروج من مأزقٍ ما، بل في كيفية تبرير الدخول فيه.

هناك تمازجٌ ما بين كُلٍّ من العقلانية والعواطفية والذاكرة والتضحية، نتجت تلقائياً عن طبيعة النكبة وتشعُّب القضية، وهي مصنوعة في دهاليز الثقافة الشعبية ذاتها، وليست مستوردة من فكرٍ أو فلسفةٍ ما، فالفلسطينيون جميعهم يدركون حقيقةَ أنه بالإمكان تسمية الهزيمة باسمها أو بالنكبة، النكسة، الانكسار، أو التقهقر، وذلك يخص بكل تأكيد الهزيمة العسكرية والسياسية، أما فيما يخص الهزيمةَ الثقافية، فهناك عموماً إدراكٌ خافتٌ لها، باعتبارها تعني الهزيمة الشاملة.

 صحيحٌ أن هذه الهزيمة لم تلم بالفلسطينيين ولا يبدو بأنها ستفعل، فلو كان ذلك ممكناً لحدثٍ منذ خروج بيروت ثم أوسلو، ولما ولدت معجزةُ الانتفاضةِ عام 2000، ولا كانت الأطرافُ وأولها العدو ذاته حائرة في تصور شكل النضال القادم، أو تخيل مداه.

لكن ما يجب الاعتراف به بقوة هو أن ما ينقص الفلسطينيين هو المؤسسة الإعلامية الحقيقية التي تعتمد على الكفاءات لا الولاءات، الخبرات لا المقولة، والتي تنتج بالضرورة إعلاماً مرموقاً، أما الإمكانات المهنية فلديهم ما ليس له مثيل، وذلك يُستدل عليه من خلال نظرةٍ على نسبة الحضور والمهارة العاليين من قبل فلسطينيين في الإعلام العربي والعالمي.
للكاتب / وليد عبد الرحيم

أضف تعليق