28 آذار 2024 الساعة 20:32

سمير صدقي العكر ترجل في المحطة قبل الأخيرة

2020-02-15 عدد القراءات : 538
ترجل الصديق المميز سمير صدقي العكر، أبا معتز، عن صهوة نضاله قبل وصوله الى المحطة الأخيرة بقليل، بعد حياة حافلة من النضالات الميدانية الشرسة والقاسية والمريرة التي جرت في بيروت ومخيمات لبنان من شماله الى جنوبه ووسطه. رحل نبيل صالح أو جورج أو ابوسوندة أو فؤاد النابلسي (الاسم المستعار الذي أطلقته عليه في المذكرات التي اعكف على كتابتها حاليا بعنوان " مقاطع من الذكريات" حيث انهيت الجزء الأول منها والمكون من 88 صفحة). غادر ذا اللكنة النابلسية التي لم تفارقه قط حتى وفاته، علما بان عاش أكثر من 52 عاما خارج مسقط رأسه ولم يعد اليها الا مرة واحدة لعدة أيام للمشاركة في وادع شقيقه الأكبر عبد الغني (أبو الصدق) عام 1996. سبق لي وان رثيت رفاقا كثيرين ومناضلين وقادة ولكنني لم أستطع لملمة وتجميع كلماتي بحق رفيق دربي المميز وصديق عمري إلا بعد اسبوعين من وفاته. أول لقاء جمعني به كان في شهر آذار عام 1968، حينما أحضره سكرتير منظمة بيروت جميل موسى رحمه الله، وكان لتوه قادما من مصر (لإسكندرية) اسوة بعدد غير قليل من الطلبة الفلسطينيين الذين غادروها. كنت حينها اسكن في شقة بالقرب من محطة الدنا بمنتصف شارع صبرا مع طلاب اخرين. وقد طُلب مني أن اتقاسم واياه الغرفة. كان اليوم الاول عاديا وبعد جلسة نقاش قصيرة خرجنا معا إلى الجامعة لتسجيله. وبحكم الوضع الذي كان سائدا في بيروت حينها أمكن تسجيله في السنة الاولى بكلية التجارة رغم مرور نحو 5 أشهر على افتتاح العام الجامعي. وقد رافقته لتعريفه بمرافق الجامعة والاحياء القريبة منها ولم يضطر لشراء كتب السنة الاولى لكونها موجودة لدي وخاصة ان الاساتذة لم يتغيروا. منظمات الجبهة كانت منهمكة حينها في الإعداد لمؤتمر اب 1968 وكان متحمسا للجناح اليساري الذي تزعمه نايف حواتمة ولكوننا نسكن معا وفي نفس الغرفة تعمقت العلاقة وترسخت أكثر فأكثر. وكنا أول من دخل مخيم شاتيلا بعد انسحاب قوى الامن اللبنانية منه. وبحكم كوني سكرتير المنظمة الطلابية للجبهة في ذلك الوقت اقترحت ان يشاركني في المهمات الطالبية والنضالية خاصة في وقت كانت منظمة بيروت ومخيمات لبنان بحاجة إلى كوادر صلبة وملتزمة. ومع بزوغ فجر الجبهة الديمقراطية في شباط 1969 كنا معا وكانت وجهات نظرنا متقاربة جدا لذلك لم يكن غريبا ان نبقى سويا ايضا في كافة الهيئات والمؤسسات الحزبية والتنظيمية والنقابية والسكن ايضا. لقد خضنا معارك عين الرمانة والفنادق والخندق الغميق والشياح والجنوب معا. وحينما كانت تحضر ام العبد (والدة سمير رحمها الله) كنا نتذوق نكهة الطعام النابلسي والقدسي حينما تحضر ام مصطفى (والدتي). وعندما عدت الى ارض الوطن في العام 1972 طلب مني ان اذهب الى بيتهم في نابلس وحملني سلاما وتحية خاصة الى شقيقته هاله رحمها الله – وقد أطلق على احدى بناته اسمها – تيمنا بشقيقته التي توفيت بذاك المرض اللعين أيضا. وفي الربع الاخير من عام 1976 غادر بيروت الى الكويت وبعدها بعام غادرت الى الاسكندرية لمواصلة التحصيل العلمي، وفي فترة اجازته السنوية حضر الى شقتي ومكث عدة ايام في بيتي قبل ان يعود ادراجه الى الكويت وقد فعلت نفس الشيء حينما زرته انا وزوجتي في العام 1979 قادما من العراق حيث كنت اعمل كرئيس لوحدة البحوث الاقتصادية في مجلس البحث العلمي. ترجل رفيق الدرب المميز عن صهوة حصانه بعد حياة مليئة بالتحديات والصعاب، لم تهن عزيمته ابدا وظل وفيا لمبادئه ولم يحد عنها قط رغم تبدل ساحات النضال من بيروت الى الكويت ثم قبرص فعمان. كانت امنيته أن يعود حرا إلى مسقط رأسه وكنت قد وعدته بالذهاب الى القدس للصلاة في أقصاها وزيارة طريق الالام التي سلكها المسيح عيسى عليه السلام ورغم الصور العديدة التي أرسلتها له وخاصة اثناء انتفاضة باب الرحمة وتحدي الأبواب والممرات الاليكترونية الا ان كل ذلك لم يكن كافيا ليتمتع بعبق وعبير القدس. وفي شهر ديسمبر من العام الماضي اتصل بي هاتفيا وطلب مني أن أحضر له كعك القدس المميز بعد ان شاهد فيلما عنه. خضع رفيق دربي لنحو 36 جرعة (جلسة) كيماوي قبل ان يقرر وقفها نهائيا. وحينما سافرت إلى عمان في بداية العام الجاري وقابلته دار بيننا حديث طويل جدا قال لي بأنه قد اعطى وكالة توقيع لمعتز ونورا. في اليوم التالي كان على موعد لعمل صورة اشعة Citi scan وطلبت منه ان اوصله الى المستشفى ولكنه تمنع وقال ما زلت قادرا على قيادة السيارة. أقفلت راجعا الى القدس ودخل صديق عمري المميز المستشفى وبت اتحدث معه بشكل شبه يومي حتى ال 22 من شهر يناير / كانون الثاني الماضي حيث تحدثت معه للمرة الأخيرة وشاهدت صورته من خلال شبكة التواصل الاجتماعي وكان حديثة متقطعا لكن ابنته نورا ابلغتني بانه سيتصل بي في اليوم التالي. وقد اتصلت بصديق مشترك ليمر عليه في المستشفى فوجدته في دبي، لكنه قال لي: سأمر عليه حين عودتي إلى عمان والتي سأصلها غدا. وقد أبلغني الصديق المشترك بأن حالته حرجة جدا خاصة وانه لم يعد يستطيع التحدث معي وبقيت على اتصال مع بناته وزوجته. وقبل منتصف ليلة الثلاثاء (28/1) بنحو ساعة توقف قلبه عن الخفقان.
 رحل صديقي ورفيق دربي ولكن رحلة عمري معه والتي امتدت ل 52 عاما من العلاقات المميزة والصداقة العميقة ستظل شاخصة وحية وكأنها جرت بالأمس فحسب. كان بيتي كبيته أينما حللنا أو أقمنا. رحل السامري الأصل والنابلسي المولد والنشأة والتكوين القومي والعروبي الثقافة والإسلامي الديانة واليساري الفكر قبل أن تكتحل عيناه برؤية نابلس وقد تحررت من نير وهمجية الاحتلال البغيض. أبا معتز العزيز برحيلك المبكر أدميت قلوبنا وقلوب كل محبيك ورفاق دربك الكثر الذين ما زالوا على قيد الحياة. لقد أبًنا معا وشاركنا في وداع رفاق درب لنا في بيروت ورام الله وغزة وأربد ودمشق ومعظم مدن فلسطين. وفي آخر لقاء تم في شهر ديسمبر/ كانون الأول من العام الماضي تذكرنا نهفات هشام أبو غوش وجسارة خالد نزال وإنسانية أبو عدنان والتزام نهاية محمد وانضباط عبد الغني هللوا واندفاع بهيج المجذوب وهدوء فرحان النابلسي وأكلات أبوعلي البطة والعشرات غيرهم لم أكن اعلم أو أدرك بانك بعد أسابيع قليلة ستلحق بشهداء رفاق الدرب. يا رفيق دربي وصديق عمري المميز رحليك أخلَ بتوازني كثيرا وحال دون أن ارثيك في اليوم الثاني او الثالث كما فعلت مع رفاق درب كثيرين. لم أستطع لملمة وتجميع افكاري الا بعد أسبوعين كاملين على رحيلك.يا سمير يا أبرز الأصدقاء وأقرب رفاق الدرب الى عقلي وقلبي، لن ننساك وستبقى ذكراك وذكرى كل الشهداء نبراسا يضيء لنا درب الحرية وسنرفع راية النصر على اسوار ومآذن وكنائس القدس. أقول كما قلتها لك مرات عديدة، في القدس نحن باقون ولن نرحل وسنبقى كشوكة فولاذية ذات شُعب مستقرة دوما في بلاعيم وحناجر أعدائنا نمزق احشائهم لا هم قادرون على بلعنا أو إخراجنا من صدورهم. العزاء في نابلس كان يتناسب ومقامك. فقد كنت الى جانب نزيه وعبد القادر وصدقي وايمن وبقية الأهل والأصدقاء. كن على ثقة بان صفعة القرن لن تمر ما دام فينا قلب ينبض. الوداع يا رفيق الدرب، والعهد ان نبقى كما اتفقنا حتى نحقق النصر الأكيد.

أضف تعليق