28 آذار 2024 الساعة 20:09

كلمة فلسطين في الأمم المتحدة .. رهانات فاشلة وإفلاس سياسي

2019-10-05 عدد القراءات : 532
(1)
■إلى جانب سلسلة السقطات السياسية التي برزت واضحة المعالم فيه، فقد اعتور خطاب فلسطين في الجمعية العامة للأمم المتحدة ركاكة في الصياغة، وارتباك في تركيب الجمل، عبرت عن حالة الارتباك السياسي، واضح المعالم، وعن أزمة سياسية تعانيها الجهة التي صاغت الكلمة، بما هي تعبير عن سياسية السلطة الفلسطينية وقيادتها.
فضلاً عن ذلك؛ بات واضحاً أن من صاغ الكلمة، كان يحلق خارج الحدث اليومي، وخارج تطور الأحداث الفلسطينية، بما في ذلك الحدث المهم المتمثل في الدورة الـ 23 للمجلس الوطني الفلسطيني في 30/4/2018، وقد جاءت المواقف المتضمنة في الكلمة مغايرة تماماً لقرارات المجلس، وهو المؤسسة الشرعية الوطنية الأعلى، وقراراتها ملزمة لكل الأطراف في م. ت. ف، رسمت الاستراتيجية الفلسطينية الواجب إتباعها في مواجهة «صفقة القرن» (صفقة ترامب - نتنياهو) وسياسات حكومة دولة الاحتلال، وإجراءاتها اليومية.
الكلمة تخطت القرارات، وأسهمت في وصف «الصفقة»، وفي التمسك برفضها اللفظي الكلامي المجاني، وفي الرفض اللفظي الكلامي المجاني لسياسات حكومة نتنياهو، بما في ذلك توسيع الاستيطان، ونهب الأرض، ونهب المال العام، وحجز أموال المقاصة، دون أن تبادر للرد على هذا كله بخطوة عملية واحدة، بل اعتمدت الانتظار، والمراوحة في المكان، والتمسك بالسلام، والتمسك بالمفاوضات، ومقاومة ما أسمته «الإرهاب»، شعارات ووصفات ومحطات رئيسية في الخطاب، دون أن تقدم للرأي العام، أية استراتيجية عملية يمكن أن تقود إلى «السلام»، ويمكن أن تقيم «المفاوضات» (وفقاً لدعواتها) ودون أن تعرّف ما هو «الإرهاب»، وإن كانت قد غمزت من قناة المقاومة الفلسطينية، والمقاومة اللبنانية، حين أشارت إلى الاتفاق المعقود بينها وبين الولايات المتحدة في هذا الميدان، وحين أكدت على ما أسمته «المقاومة الشعبية السلمية»، والتي لم تقدم حتى الآن، للرأي العام، ما هو تعريفها لهذه المقاومة «السلمية».
جاءت الكلمة خطاباً مكروراً، حافلاً بالإنشاء اللغوي، فارغاً من أي مضمون سياسي، يمكن أن يشير إلى امتلاك السلطة الفلسطينية الإرادة السياسية للخروج من أوسلو، ومن بروتوكول باريس. بل أكدت بالمقابل تمسكها بالاتفاق والتزاماته، بما في ذلك «تحديها» لنتنياهو للقبول بمفاوضات «سرية، علنية، ثنائية، غير ثنائية». وقد شكل هذا «التحدي»، في واقع الحال أدنى درجات الهبوط والتفكك الاستراتيجي، وأعلى درجات الابتذال السياسي في الوقت نفسه .
(2)
■ بدا مطلع الكلمة وكأنه يحمل في طياته تهديداً بإنهاء العمل بالاتفاقيات الموقعة مع حكومة الاحتلال، إن هي أقدمت على ضم مناطق نهر الأردن وشمال البحر الميت.
لم ترد في الخطاب عبارة «ملغاة»، بل وردت عبارة «منتهية». باعتراف واضح في سياق الكلمة أنه سبق أن اتخذت المؤسسة الوطنية قرارات بذلك دون الإقدام على تنفيذ هذه القرارات.
المجلس الوطني، في دورته الـ 23 (30/4 – 4/5/2018) أعلن انتهاء المرحلة الانتقالية، التي نصت عليها الاتفاقات الموقعة في أوسلو والقاهرة وواشنطن، وانتهاء العمل بالتزاماتها.
بالمقابل أعلن بدء العمل بالانتقال من مرحلة سلطة الحكم الذاتي إلى مرحلة الدولة.
في هذا السياق كلف المجلس الوطني اللجنة التنفيذية بتعليق الاعتراف بإسرائيل، إلى حين اعترافها بدولة فلسطين على حدود الرابع من حزيران (يونيو)67، وإلغاء قرار ضم القدس الشرقية ووقف الاستيطان.
كما أكد على وجوب تنفيذ قرار المجلس المركزي في دورتيه الأخيرتين (5/3/2015 + 15/1/2018) بوقف التنسيق الأمني بكافة أشكاله، والتحرر من علاقة التبعية الاقتصادية التي كرسها بروتوكول باريس، بما في ذلك المقاطعة الاقتصادية لمنتجات الاحتلال، بما يدعم استقلال الاقتصاد الوطني.
كما أكد المجلس «على ضرورة التزام اللجنة التنفيذية ومؤسسات دولة فلسطين المباشرة في تنفيذ ذلك».
هذا كله تجاهلته كلمة فلسطين في الأمم المتحدة، وبقيت تتحدث وتناور تحت سقف أوسلو، وبروتوكول باريس الاقتصادي، مؤكدة على تمسكها بالاتفاقات المعقودة، ولم تذهب إلى أبعد من التلويح بوقف العمل بها.
التلويح حمل في طياتها مضمونين متناقضين. من جهة يبدو وكأنه تهديد، لكنه في حقيقته دعوة للدول الأعضاء في الأمم المتحدة للضغط على إسرائيل للتخفيف من إجراءاتها، وعدم الذهاب بها إلى النقطة التي تقف فيها السلطة في قلب أزمة سياسية خانقة.
من هنا كانت الدعوات المتكررة إلى الأمم المتحدة للضغط على دولة الاحتلال لعدم الذهاب إلى ضم الغور الفلسطيني وشمال البحر الميت، حتى لا تقف السلطة في لحظة شديدة الحرج، مع نفسها، ومع شعبها.
فلا هي تملك الإرادة السياسية للتراجع عن الاتفاقات أو وقف العمل بها، (حرصاً على مصالحها التي بنتها في سياق عملية سياسية اقتصادية مكشوفة المعالم)، ولا هي تستطيع أن تقاوم الضغوط الشعبية المتزايدة والتي باتت تعبر عن نفسها بسلسلة استطلاعات رأي، لا تخفي رغبتها في إجراء التغيير الضروري في رأس السلطة الفلسطينية.
السؤال: باسم من ألقيت الكلمة في الجمعية العامة، وقد تناولت الاتفاقيات مع الاحتلال من هذه الزوايا؟ وهل عبرت حقاً عن قرارات الشرعية المؤسساتية، أم أنها كانت تعبيراً عن استراتيجية أوسلو وبروتوكول باريس، وتعبيراً عن مصالح الفئات الاجتماعية المتربعة على رأس السلطة، وقد بنى لها أوسلو ما بناه من مصالح ومغانم ومكاسب ونفوذ؟ .
 (3)
محور الاستراتيجية السياسية، كما بدت في الكلمة، هي الوصول إلى «السلام عبر المفاوضات»، و«عبر المفاوضات فقط!» في استبعاد لكل الخيارات الأخرى: وفي تجاوز بهلواني لتجربة ربع قرن من المفاوضات العبثية التي لم تورث الشعب الفلسطيني سوى الكوارث السياسية، وقادته إلى ما هو عليه الوضع الآن.
ومحور الاستراتيجية التفاوضية هي مبادرة 20/2/2018، كما تم الإعلان عنها في مجلس الأمن.
بل ذهب الغرام بالمفاوضات إلى حدود «تحدي» نتنياهو أن يقبل الدعوة، مهما كانت صيغة المفاوضات «علنية، سرية، ثنائية أو غير ثنائية». وهي عبارة أبرزت إلى حد بعيد هشاشة الموقف الفلسطيني وعمق أزمته السياسية، ومدى تمسكه بعملية سياسية، هو يدرك أكثر من سواه، أن أفقها بات مسدوداً، وأن الجانب الإسرائيلي لم يعد في وارد الاهتمام بهذه العملية، وأن استراتيجيته، باتت، منذ الإعلان عن إطلاق «صفقة ترامب - نتنياهو»، إحداث انقلاب في العملية السياسية، أي الوصول إلى «سلام» مع الدول العربية أولاً، ومن ثم، بعد ذلك الذهاب إلى رسم ملامح «الحل» مع الجانب الفلسطيني، في إطار «حكومة»، (وليست دولة) لإدارة ذاتية في أنحاء من الضفة الفلسطينية وقطاع غزة.
هذه الأمور باتت مرئية للجميع، وتقال علناً، على لسان نتنياهو، وجيسون غرينبلات، وديفيد فريدمان، وبدأت تطل برأسها في خطوات عملية، أطلقت سيقانها للريح ورشة البحرين الاقتصادية. وبالتالي تجاهل هذا كله العودة إلى خيار المفاوضات خياراً وحيداً، وإلى مبادرة 20/2/2018، وتجاهل كل التطورات والمستجدات، تعبير عن حالة إفلاس سياسي، متعدد الطبقات.
إفلاس في قراءة الحدث. إفلاس في استيعاب مضمونه. وإفلاس في توفير الرد المناسب على مجريات الأحداث. وبالتالي يمكن القول إن خطاب الأمم المتحدة كان إعلاناً عن تفليسة سياسية للسلطة الفلسطينية وقيادتها.
(4)
■ في انفصال تام عن هذه السياسة، رسم المجلس الوطني استراتيجيته الكفاحية، ورده العملي على الوقائع والتطورات. وكلف اللجنة التنفيذية بالعمل على الالتزام بها في سياساتها اليومية. أما بشأن المفاوضات، فقد دعا المجلس الوطني إلى مؤتمر دولي، بشروط وأسس تكفل الحقوق الوطنية المشروعة لشعب فلسطين.
لكن المجلس كان يدرك أن الوصول إلى هدف عقد المؤتمر الدولي، أمر شاق، وعملية كفاحية، تتطلب سلسلة  خطوات تراكمية، تؤدي إلى تحسين ميزان القوى لصالح الجانب الفلسطيني، على حساب الجانب الإسرائيلي. وأن الطريق إلى ذلك هو في اعتماد كل أشكال المقاومة (وليس المقاومة السلمية التي تحولت إلى أحجية شديدة التعقيد!) في الميدان وفي المحافل الدولية.
ومادامت عملية الصراع الميداني، لم تأخذ مداها، لا على الأرض ولا في المحافل الدولية، فسيبقى الحديث عن المؤتمر الدولي، وعن أية دعوة أخرى للمفاوضات، مجرد كلام بلا مضمون عملي، يعبر عن حالة انتظاريه، بينما الوقت يسير، والزمن يمضي، ومشاريع التوطين والتهويد مستمرة، وبناء الوقائع الميدانية على قدم وساق، لا تنفع فيه كل أشكال الاحتجاجات، ولا الدعوات المبتذلة إلى الأمم المتحدة للتحرك دفاعاً عن الفلسطينيين، إذا لم تتحرك السلطة الفلسطينية نفسها وتتحمل واجباتها إزاء شعبها، وقضاياه، وتلتزم قرارات مؤسسته الوطنية في مواجهة سياسات الاحتلال وخطواته الإجرائية.
التجربة أكدت أن المجتمع الدولي لن يتطوع للدفاع عن الشعب الفلسطيني، ولن يذهب إلى مجابهة الاحتلال بديلاً عنه في وقت لا تجد فيه السلطة الفلسطينية وقيادتها سوى الحديث عن «السلام»، وعن «المفاوضات» خياراً وحيداً للسلام . ولا تجرؤ في الوقت نفسه أن ترفع أصبعاً واحدة في وجه الاحتلال، بل تبقي على التزاماتها نحوه بموجب الاتفاقيات المعقودة معه، في الوقت الذي تعترف فيه، بلسان أعلى سلطة أن حكومة الاحتلال لم تعد تلتزم هذه الاتفاقيات، ولم تعد تعمل بها.
(5)
سقطة أخرى وقعت فيها الكلمة، في لحظة سياسية شديدة الحماسية، حين دعت إلى «حل عادل وشامل» لقضية اللاجئين الفلسطينيين، دون الإشارة لا من قريب أو من بعيد إلى «حق العودة»، وحين ربط مصير الأونروا هي الأخرى بما يسمى « الحل العادل والشامل».
يدرك خبراء السياسة والقانون الدولي أنه ليس هناك حلول «عادلة» في السياسة. فالحل العادل في صراع بين دولتين، قد يكون عادلاً لدولة وغير عادل للدولة الأخرى. وتاريخ البشرية والاتفاقات الدولية حافل بعشرات الأمثلة. وكثير من الاتفاقات، وقعت بين أطرافها على أنها حلول «عادلة» وحلول «شاملة»، سرعان ما سقطت في التنفيذ، لأن الممارسة أكدت أنها لم تكن «عادلة» ولم تكن «شاملة». أما قضية اللاجئين الفلسطينيين، فهي واضحة المعالم، وقرارات الأمم المتحدة بشأنهم هي الأخرى واضحة المعالم، حين كفلت لهم بموجب القرار 194 حقهم الثابت في العودة إلى الديار والممتلكات التي هجروا منها منذ العام 1948. ومنحت حق القرار في العودة للاجئ نفسه، أي أنها لم ترهن قرار العودة بموافقة السلطات الإسرائيلية.
الموقف الوارد في كلمة فلسطين يحمل خطورة مركبة:
• فهو يَرِدُ وكأنه إعلان مكشوف عن الاستعداد للبحث في الحلول البديلة لحق العودة؛ وإن كان قد حاول أن يجمل نفسه بعبارتين خادعتين، هما «الشامل» و«العادل».
• يرَدُ على أعلى منبر في الأمم المتحدة، أي الجمعية العامة، التي على جدول أعمالها إعادة التأكيد على القرار 194 (أي حق العودة). وبالتالي هو يفتح الباب للمساومة على مضمون القرار والمقايضة السياسية به. وهذا من شأنه أن يلحق الضرر بقضية اللاجئين.
• يرد في وقت تتهم فيه بعض الدول المضيفة الفلسطينيين بخطر التوطين. وهو ما يعطي الدول الذرائع للذهاب بعيداً في فرض قيودها على اللاجئين بدعوى درء خطر التوطين.
• يرد في الوقت الذي تدعو فيه الولايات المتحدة، وبعض الأطراف الأوروبية، إلى حجب التمويل عن وكالة الغوث بداعي الفساد.
• يرد في الوقت الذي تدعو فيه صفقة ترامب – نتنياهو إلى حلول بديلة لحق العودة.
إذن، في خدمة من التلويح بالتخلي عن حق العودة؟ وما هو المقابل الذي تتوقع السلطة الفلسطينية وقيادتها أن تحصل عليه إن هي لوحت بورقة اللاجئين وبالتخلي عن حق العودة؟.
ولماذا لا يتم التأكيد بكل وضوح وإصرار أن «الحل العادل والشامل هو حق العودة إلى الديار والممتلكات في الـ 48».
(6)
لم تبخل الكلمة في عرض معاناة السلطة الفلسطينية مالياً، بعدما قررت قيادتها وقف استلام أموال المقاصة من سلطات الاحتلال احتجاجاً على مصادرة ما يعادل رواتب وتعويضات الأسرى وعائلات الشهداء، بذريعة أنها تذهب لدعم الإرهاب.
رفعت السلطة الصوت عالياً في «تحدي» حكومة الاحتلال ورفضت استلام المال. وبدأت المعاناة في صفوف الموظفين (هذا لم يمنع قيادة السلطة من زيادة رواتب الوزراء ومن في حكمهم وزيادة مستحقاتهم المالية!). وبدأت السلطة تدفع أقساطاً من رواتب الموظفين، وفي الوقت نفسه تدعو مالية الاحتلال إلى إعادة التفاوض حول أموال المقاصة.
الجانب الإسرائيلي، لإدراكه أهمية الدور الذي تقوم به السلطة في خدمة مصالحه الأمنية والاقتصادية وغيرها، «ابتدع» حلاً (ولو مؤقتاً) للسلطة سمح لها باستلام دفعات من أموال المقاصة، دون أن تبدو وكأنها تراجعت عن قرارها الاحتجاجي.
وهي الآن، تدعو لحوار جديد لأن الخطوة السابقة استنزفت مفعولها، وباتت السلطة بحاجة إلى حلول جديدة وإضافية.
مأساة السلطة أن مفتاح خزينتها هو بيد وزير المال الإسرائيلي موشيه كحلون. حين يفرج لها عن المال، تدفع رواتب موظفيها. وإلا فلا رواتب. خاصة وأن أموال المقاصة تشكل، باعتراف  وزير المال في السلطة، 60% من إيرادات السلطة:
خطيئة السلطة هنا، أنها ذهبت و اكتفت بالشكوى إلى الأمم المتحدة، رغم أن بيدها العديد من الأسلحة الفعالة التي إن هي استعملتها في المكان المناسب، أرغمت الاحتلال على الرضوخ للإرادة الفلسطينية: بيدها قرار وقف التنسيق الأمني، الذي ترى فيه إسرائيل المحور الأكثر أهمية من محاور العلاقة مع السلطة. بيدها قرار مقاطعة البضائع الإسرائيلية الذي إن جرى تفعيله ألحق بالاقتصاد الإسرائيلي خسائر جمة.
كلمة فلسطين في الأمم المتحدة، إعلان عن الإفلاس السياسي لاستراتيجية أوسلو، التي نفقت، ومازال البعض يحاول أن ينفخ فيها الروح بلا جدوى.■

أضف تعليق