25 نيسان 2024 الساعة 17:22

وادي الغيوم.. إشكاليات الثورة والمقاومة والحياة

2019-08-31 عدد القراءات : 553
مثّل الزمان في الرواية زمن الحرب والقضايا الكبرى، وزمن الإخفاق والهزيمة التي تبدّت على يوسف وجلال ووفاء التي استبيحت فوق أرض المخيم، ومن ثمّ زمن التشتت والخوف.
تطرح رواية " وادي الغيوم" للكاتب الدكتور علي نسر كثيرًا من الأسئلة والإشكاليات التي إذا ما أردنا شرحها ومناقشتها، أو  إلقاء الضوء على كل منها، لاحتجنا إلى عدد وافر من الصفحات، أو إلى بحث مستقل، وليس مقالة نقدية، لما تحمله الرواية من موضوعات غزيرة ووازنة ومهمة.
تعالج الرواية موضوعات الحرب اللبنانية، ومرحلتي الثورة الفلسطينية والاجتياح الإسرائيلي، ومرحلة المقاومة اللبنانية بكل مراحلها وتلويناتها وأحزابها، وصولاً إلى مرحلتنا التي نعيش.
لم يهمل علي نسر القضايا الاجتماعية على حساب السياسة والوطن والمقاومة، فكان جريئاً في طرح عدد من الأسئلة، وفي نقد المجتمع اللبناني ومقاربته للواقعين السياسي والاجتماعي.
   إنّ أبرز المبادئ التي قامت عليها البنيوية هو المبدأ القائم على أنَّ "الأدب نصٌّ مادِّيٌّ تامٌّ منغلقٌ على نفسه"، أي أن دراسة الأعمال الأدبية عملية تتمُّ في ذاتها، بغضّ النظر عن المحيط الذي أنتجت فيه؛ فالنص الأدبي منغلقٌ في وجه كل التأويلات غير البريئة التي تعطيه أبعادًا اجتماعية أو نفسية أو حتى تاريخية، ومادِّيٌّ في كونه قائمًا على اللغة؛ أي: الكلمات والجُمَل. بالإضافة إلى ذلك هناك مبدأ مهم نادى به رولان بارت ألا وهو: "اللغة هي التي تتكلم، وليس المؤلف"، وذلك حين ضمَّن هذا التصور في مقالته «موت المؤلف».
  سأتجاوز ما قاله البنيويون في فصل النص عن الكاتب، من رولان بارت، وتودوروف، وجيرار جينيت، وبليخانوف وغيرهم، لقناعتي أنّ فصل النص عن الكاتب هو ترفٌ غير متاح، وهو مَسخُ للنص، عبر سلخه عن خلفيته الاجتماعية والتاريخية التي تؤثّر في الكاتب بشكل أو بآخر. ولعل ما قاله رواد البنيوية التكوينية وفي مقدمتهم المجري جورج لوكاتش والروماني لوتسيان غولدمان هو الأكثر ملاءمة لنص يطل على قضايا اجتماعية وسياسية وتاريخية.
سيميائية العنوان
   يوحي عنوان الرواية "وادي الغيوم" بالانسحاق والدنوّ، فالوادي هو عبارة عن الأرض الواطئة المحدودة والمنتهية والمحاصرة، ولعلّه ذلك المنحدر الذي وصلت إليه الأمة. فتتبدّل هنا الأدوار. وبدلًا من أن تكون الغيوم مكانًا للرفعة والعلوّ، نراها تتكوّم على نفسها متلحقة بالوادي، متخليّة عن موطنها الطبيعي في السماء، أو أقله على  رؤوس الجبال. وتشكّل هذه الثنائية الضدية الحالةَ النفسية التي سيطرت على الشخصيات، فأفرزت كل تلك التناقضات التي وجدناها تستوطن ثنايا الرواية.
نوستالجيا حزينة
  رواية  "وادي الغيوم" نوستالجيا حزينة، ومقطوعة فجائعية تدخلُ القارئ في نفق جنائزي مأساويّ يعبّر عن الواقع المأزوم الذي تعيشه الأمة. فتهزّ القارئَ من كتفيه، محاولة إخراجه من هذا الواقع التافه والاستهلاكي والمائع، لتعيد تثبيت قدميه على أرض الواقع الذي يحاول كثيرون الهروب منه، ويفضلون عدم مواجهته، بل التبرؤ من مأساويته في الأصل.
   يسيطر على الحكي ثالوثٌ حاكمٌ يتمثّل في الأم المفقودة والمستعادة في معظم المحطات، والوطن أو الأرض المغتصبة، مرة من المحتل، ومرة أخرى من اللصوص والفاسدين، والعصر الثالث يتمثّل في العادات والتقاليد الموروثة المتخلّفة، فحاول الدكتور علي نسر من خلال ذلك أن يحطّم بعض "التابوهات" (المحرمات) في العلاقات الإنسانية، والاجتماعية، والموروث التاريخي.
   نوّع الكاتب في أصوات الرواة، ومنح كلَّ راوٍ مساحةً وازنة للتعبير عن أفكاره ورؤيته في الحياة، وهو الخبير في معرفة لعبة تقنيات السرد. فتنوّعُ الأصوات كان دليلًا على تعدد الرؤى والأفكار، وعدم مصادرة أي رأي أو فكرة على حساب الأخرى، مع منحه مساحة أكبر لـ"يوسف قنديل" كونه الشخصية المحورية في الحكاية.
  مثّل الزمان في الرواية زمن الحرب والقضايا الكبرى، وزمن الإخفاق والهزيمة التي تبدّت على يوسف وجلال ووفاء التي استبيحت فوق أرض المخيم، ومن ثمّ زمن التشتت والخوف. ومثّل المكان أرض لبنان التي غطّتها الحرب والدماء والقتل.
أما الشخصيات فتوزّعت على مروحة واسعة من الشباب والشابات الذين يختلفون في الأفكار والعقائد، ولكنّ المحبة بقيت القاسم المشترك بينها.
يوسف قنديل، الشخصية الرئيسة، المثقف والمقاوم السابق، والعلماني الذي خذلته الحرب، وما زال مشهد أشلاء رفاقه وصراخُهُم جاثمًا على صدره. يحاول أن يعوّض عن خساراته وإخفاقاته، وهزيمته الداخلية، من خلال عاملين: الأول، تعدّد علاقاته النسائية، والثاني، إظهار نرجسيته من خلال تكرار الكلام على شدة إعجاب النساء به، وانهزامِهن أمام سطوةِ شخصيته وجاذبيتها وسحرها. يوسف، هو (القضية)، وهو الأخ الذي تآمر عليه إخوتُه، ورمَوه في الجبّ، وبيعَ بثمنٍ بخس.
  يوسف الذي يعيش في الماضي أكثر من إحساسه بالحاضر الذي يحسبه نتيجة لذلك الماضي المظلم والظالم، الذي بقي مشدودًا إليه، ولم يستطع التفلّت من براثنه. الماضي المتمثّل بأخته المقتولة غيلةً على مذبح الشرف، من أهلها وأقاربها والمحيط. أخته "صباح" التي لم يعرفها، تكاد تمثّل القضية الكبرى، والثورة التي أهدر الأشقاءُ دمها، وغسلوا أيديهم منها، وكانوا يسترقون النظر على مشهد اغتصابها من العدو.
  يوسف قنديل الذي يكتب في روايته عن "وفاء" الحبيبة التي تنتظر (جلال) المقاتل الفلسطيني الذي اُبعدَ ورفاقُه عبر البحر بعد الاجتياح الإسرائيلي لبيروت في العام 1982. جلال المسكون بحادثة اغتصاب والدته في تل الزعتر، يغتصب حبيبتَه "وفاء" فوق أرض المخيم، بعدما انحرف إلى تجارة المخدرات وتعاطيها في المخيّم، ولعلّ وفاء، وأم جلال ثمثّلان الأرض المغتصبة، ويمثّل جلال الجندي المكسور المسحوق.
يوسف الذي دمّر حياةَ حبيبته "مرام" بعدما وعدها بالسعادة والحب، والتي لم يعرف كيف يحافظ عليها، فتركها على قارعة الحياة تنهشها الذئاب. "مرام" القضية والمرأة والثورة والحبّ والمستقبل. في دلالة على قصوره عن الفعل، وتحمّل المسؤولية تجاهها.
 وهذا ما تبدى أيضًا في علاقته مع "سهى" زوجته التي تركته ومنعته من رؤية ولديه.
 يوسف، المتحكّم به عُصاب، أراد أن ينتقم من كل شيء، من العادات الموروثة، ومن التقاليد ومن الأحمال التاريخية، نراه يفرغ غضبه وثورته في العنصر الأكثر ضعفًا في المجتمع، وهو المرأة. فلم نجده يتحدث عن علاقاته النسائية إلا كأعداد تلبّي رغبته في تظهير نرجسيته، وإثبات وجوده الذكوري في المجتمع.
مثّل صلاح الأنا الأعلى أو النفس اللوامة في الحكاية، فهو كان دائمَ الحضور عند كل مفصل ومحطة. صلاح المقاوم، المحاور الذي لم يفسد اختلاف يوسف معه في العقيدة أو الفكرة ودًا في القضية، فنراه يتحمله، ويبحث له عن مسوّغات سلوكه وتصرفاته، حتى أنه أطلق اسم ولده البكر تيمنًا بصديقه. صلاح الذي يستشهد في نهاية الحكي، هل يعلن موتُه موتَ الأنا الأعلى او النفس اللوامة، عند يوسف؟ وصلاح هو الذي مثّل الجانب المضيء والمشرق في القضية/الثورة/ المقاومة. وهل أراد الكاتب أن يحرّر يوسف من سلطة الضمير التي يمثلها صلاح، فيتفلّت من كل كابح ومؤثر ورادع؟ وهل أنّ موت صلاح هو موت للقضية أو الثورة؟
أخيرًا، هل أنّ موت صلاح، وكل تلك النهايات المأساوية لعلاقات الحب، ولإخفاق الثورة في محطة ما، يريد منه الكاتب موتًا لمرحلة، لموسم من الحصاد لم يكن موفقًا، بانتظار مواسم أكثر عطاءً؟
  رواية جميلة تستحق القراءة والنقاش، هي باكورة أعمال الأستاذ الجامعي والناقد والشاعر الدكتور علي نسر، الذي لم يمنح فرصة التأويل للمتلقي، أو الاستنتاج، حيث عمل جاهدًا أن يقول كلّ شيء، حتى أنه استكثر على القارئ أن يستنتج أنّ صلاح يمثّل النفس اللوامة عند يوسف، فقالها في نهاية الرواية "مخاطبًا صلاح عند استشهاده: "لقد كنت نفسي اللوامة". لعل الكاتب خاف ألا يصل ما يريد قولَه إلى الشريحة الأوسع التي يخاطبها، او أراد أن يحاكي المستوياتِ جميعَها، ولم يكتب روايته للنخبة فقط. ظهر ذلك من خلال كثرة الشرح والاستطراد والتوضيح.
 *د. طارق عبود كاتب وباحث وناقد لبناني.

أضف تعليق