19 نيسان 2024 الساعة 00:32

طير لا يكفّ عن القول

2019-06-20 عدد القراءات : 674
كتب صبحي حديدي
لا يكاد ينتهي معرض فلسطيني تحت عنوان «قول يا طير»، حتى يبدأ معرض جديد: في رام الله ــ متحف محمود درويش؛ في دارة الفنون، عمّان؛ في جامعة النجاح الوطنية، نابلس؛ في مركز الشيخ إبراهيم آل خليفة الثقافي، البحرين؛ في مركز يبوس الثقافي، القدس؛ وفي قصر الأمير طاز، القاهرة مؤخراً… معظم هذه المعارض تتمّ بمبادرة خلاقة من «مؤسسة الرواة للدراسات والأبحاث»، التي «تعنى بتوثيق التاريخ الاجتماعي الفلسطيني، عن طريق جمع الروايات الشفوية، التي تحمل مخزوناً ثقافياً، وتركز على تسجيل تجارب النساء، ضمن رؤيتها لأهمية التركيز على روايات الفئات المجتمعية المهمشة، التي أقصيت عن كتابة روايتها التاريخية».
والمؤسسة تعمل في فلسطين أولاً، بما في ذلك غزّة وأراضي 1948؛ ثمّ في الشتات (الأردن، لبنان، مصر، وتشيلي)؛ ونطاق أشغالها يتمحور حول أربعة مشاريع: تهجير العام 1948، نساء رائدات، جرحى العدوان على غزة العام 2014، ومشروع فضة زمان.

وكما هو معروف، فإنّ «قول يا طير» عبارة تستهل السرد الشفهي للحكايات الشعبية في فلسطين، وأجزاء واسعة من المشرق العربي، تفيد تناقل الروايات والأخبار والأقاصيص والأمثال.
ولعلّ استخدامها المعاصر الأشهر هو في عنوان كتاب «قول يا طير، يا طير قول: الحكايات الشعبية الفلسطينية العربية»، الذي وضعه باللغة الإنكليزية الناقد والمترجم الفلسطيني إبراهيم مهوي ومواطنه عالم الاجتماع والأنثروبولوجي شريف كناعنة؛ وصدر سنة 1989 عن مطبعة جامعة كاليفورنيا.
وكانت ترجمة للكتاب إلى الفرنسية، أنجزتها ليلى المصري، قد صدرت سنة 1997 عن منشورات اليونسكو في باريس؛ أعقبتها ترجمة إلى العربية، سنة 2001، عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية في بيروت، أشرف عليها جابر سليمان وإبراهيم مهوي.
والكتاب، الفريد في محتوياته وطرازه التأليفي ومقارباته المنهجية، يختار 45 حكاية شعبية فلسطينية، من أصل 200 على الأقلّ، فيعيد سردها كما حُفظت على ألسنة نساء من مناطق مختلفة في فلسطين التاريخية، خاصة الجليل والضفة الغربية وقطاع غزّة.
وتتوزّع الحكايات على خمس مجموعات، ذات صلة بموضوعة السرد: الأفراد (أبناء وآباء وأقارب، تفتّح الوعي الجنسي، البحث عن قرينة)؛ العائلة (عرائس وعرسان، أزواج وزوجات، الحياة العائلية)، المجتمع (الغولة، بنت التاجر، بذور الرمان، الصياد…)؛ البيئة والطبيعة (حكايات شتى، خاصة علاقة الآدمي بالحيوان)؛ والكون (علاقات الفقر والغنى، وطبائع المهن، بصفة خاصة). وفي اعتماد هذه التصنيفات اتكأ المؤلفان على منهج الفنلندي أنتي أرني والأميركي ستيث تومسون في تحليل أنماط الحكاية الشعبية وفقاً لمعطيات جغرافية/ تاريخية في آن معاً؛ على أساس عناصر التشابه التي تتيحها الوحدات السردية المتماثلة.
ويكتب كناعنة، في مقدمة الطبعة العربية: «بداية عدنا إلى النصوص المسجلة شفوياً على الأشرطة ونقلناها كتابة بعد أن دققناها حسب اللهجة الفلسطينية الدارجة التي رواها بها الرواة، والتي تختلف في طريقة نطقها من منطقة لأخرى، بل ومن قرية لقرية مجاورة.
وعمدنا في تشكيل النص وإملاء مفردات اللهجة الدارجة إلى مقاربة الفصحى قدر الإمكان، من دون أن نطمس طريقة لفظها التي ترتبط دون شك بجماليات الأسلوب والإيقاع السردي. فاللهجة الدارجة تتحلى بقدرة لغوية وتعبيرية وخيال أدبي وأسلوب سردي لا تقل جمالاً عما يتحلى به أدب الفصحى».
وفي عداد فضائل هذا الكتاب الثمين أنّ مهوي وكناعنة أفردا عدداً من الملاحق المهمة، والمرجعية عالية النفع؛ بينها مسرد بالموتيفات الشعبية (وهي بالعشرات، أساسية وفرعية)، ولائحة بالحكايات الـ45، طبقاً للنمط الذي تعكسه؛ ومراجع مختارة (بالغة الغنى في الواقع، إذْ يفاجئنا مثلاً كتاب بالإنكليزية صادر عن جامعة مكسيكية، يتناول الأزياء والحلي الفلسطينية؛ وآخر طُبع في لندن سنة 1903، عنوانه «حكايات تُروى في فلسطين»…). أمّا فصل «تحليل أنماط الحكاية» فهو مادّة دسمة للقارئ المتخصص، أو الراغب في تعميق معارفه حول الفولكلور والأنثروبولوجيا تحديداً؛ إذْ يعقده مهوي وكناعنة لعرض منهجية أرنه ــ تومبسون، وكيف جرى تسخيرها لتصنيف الحكايات الشعبية الفلسطينية، في أزمنة الماضي وعقود الاحتلال والاستيطان أوّلاً؛ ثمّ ربطها بالتراث الفولكلوري العربي العريض، وصولاً إلى التراث الإنساني الأعرض.
يبقى أنّ لـ «قول يا طير» تتمة أخرى مؤسفة، بل محزنة أيضاً؛ إذْ إنّ وزارة التربية الفلسطينية كانت، في سنة 2007، قد أصدرت تعميماً بسحب الكتاب من مكتبات المدارس، وإتلاف نسخه، لأنّ بعض صفحاته تتضمن «كلمات كثيرة وصريحة تخدش الحياء، بالإضافة إلى كونه مكتوباً بالعامية وليس بالفصحى».
صحيح أنّ الوزير ناصر الدين الشاعر قد ألغى القرار لاحقاً، بذريعة أنه صدر من دون علمه؛ وأنّ العديد من الكتّاب والمثقفين والأكاديميين نظموا حملة واسعة، للاحتجاج على القرار؛ إلا أنّ الضرر كان قد وقع لتوّه، خاصة في غزّة، حين أصرّ رقباء حركة «حماس» على محاربة الكتاب.
الطير، من جانبه، لم يتوقف عن القول والسرد والحكي، ولم تنقطع مناقلاته الإبداعية بين زرقة الأعالي وأرض البشر؛ منتصراً للمخيّلة الطليقة ضدّ الانغلاق الظلامي.

أضف تعليق