25 نيسان 2024 الساعة 09:04

سلام الـ«بيزنس»!

2019-03-02 عدد القراءات : 804
انتقل مهندسو «صفقة العصر» من مرحلة إطلاق عناوينها عبر خطوات وإجراءات على الأرض، إلى مرحلة جباية أكلاف ترسيمها وفرضها على الأطراف المستهدفة. وربما في هذا السياق تأتي جولة مبعوث ترامب غرينبلات وصهره كوشنير.
يأتي ذلك بعد انعقاد مؤتمر وارسو الذي سعى إلى رسم خريطة مختلفة للصراعات الدائرة في الشرق الأوسط تخرج الاحتلال الاسرائيلي من مركز صناعة التوتر وإدامة الصراع، وتفترضه طرفا مؤهلا ليكون شريكا طبيعيا في رسم مستقبل المنطقة، وتضع حقوق شعوبها وفي المقدمة الشعب الفلسطيني في مرمى التصفية.
المفارقة، أن إدارة ترامب تريد من الرسميات العربية التي قطعت خطوات في التطبيع مع تل أبيب أن تدفع هي ثمن ذلك، وليس العكس. وهذه معادلة غير مسبوقة في عالم «البيزنس»، يدفع البائع بموجبها ثمن بضاعته، بعد أن يقوم بنفسه بإيصالها إلى عنوان «المشتري» آملا رضاه!
في الأساس، لم تعترف الإدارات الأميركية المتعاقبة بالمضمون التحرري للقضية الفلسطينية. ومن هذه الزاوية نظرت إلى انطلاق الثورة الفلسطينية المعاصرة وسعيها لتجسيد الحقوق الوطنية لشعبها كعامل مهدد لاستقرار المنطقة، فيما كانت واشنطن، ومنذ تبلور المشروع الصهيوني في فلسطين، في مقدمة الداعمين لتحقيقه. لذلك، وعندما لحقت النكبة بالشعب الفلسطيني وتشرد معظمه خارج دياره وممتلكاته، سعت الولايات المتحدة إلى إزالة آثار هذه النكبة عبر مشاريع توطين اللاجئين الفلسطينيين في مواقع لجوئهم وشتاتهم.
والمحطة الأولى التي غيرت فيها واشنطن من خطابها تجاه منظمة التحرير كانت إبان الانتفاضة الفلسطينية في نهاية العام 1987 ، التي وضعت القضية الفلسطينية في صدارة الاهتمام الدولي، وشكلت رافعة كبرى لتمكين الشعب الفلسطيني من تجسيد حقوقه الوطنية، بعد أن فشلت جميع وسائل القمع التي مارسها الاحتلال في إخمادها أو الالتفاف عليها. وجاء الخطاب الأميركي المستجد من زاوية الإيهام بأن التسوية السياسية ممكنة شرط إيقاف الانتفاضة. ومنذ ذلك الوقت، أصبح الرهان على التسوية الأميركية ركنا متناميا في محددات السياسة الرسمية الفلسطينية، إلى أن عقد مؤتمر مدريد العام 1991 ومن ثم وقع اتفاق أوسلو والدخول في متاهة المفاوضات العبثية.
ولقد عملت الإدارات الأميركية على إطالة عمر هذه المفاوضات وضغطت من أجل العودة إليها في كل محطة وصلت فيها إلى طريق مسدود، ووظفت واشنطن مشهد التفاوض في تمرير أجندتها في المنطقة لجهة تحشيد عدد من الرسميات العربية في خدمة هذه الأجندة. بالمقابل، لم تمارس أية ضغوط على الجانب الإسرائيلي حتى في تنفيذ الاستحقاقات التي نص عليها اتفاق أوسلو.
من هنا، وعندما جاءت إدارة ترامب، أخذت السياسة الأميركية تجاه الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي مسارا مباشرا يستند إلى المساحة الواسعة من التطابق بين الموقفين الأميركي والإسرائيلي بخصوص عناوين حل الصراع، وقد ساعدت في هذا الأمر التطورات العاصفة والحروب المدمرة التي شهدتها دول عربية عدة وما أدت إليه من انقسام وضعف في النظام الرسمي العربي، وخاصة مع تصاعد الهواجس لدى عدد من الرسميات العربية حول بقائها واستقرارها، ما جعلها ترى في الولايات المتحدة «منقذا» يمنع عنها ما تخشاه. وربما من هذه الزاوية لا ترى إدارة ترامب أي حرج في الإيعاز لهذه الرسميات بالإنفاق على تكاليف تطبيق صفقة ترامب، وتضغط بقوة لتسريع خطوات التطبيع مع الاحتلال.
وعلى الرغم أن ما سبق ليس المعادلة الوحيدة التي حكمت تظهير السياسة الأميركية على هذا النحو، إلا أن نتنياهو وجد فيها فرصة ذهبية لتنفيذ خطته تجاه حل الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، عبر ما يسميه «السلام الاقتصادي»، الذي تتطابق معه عناوين الصفقة الأميركية. ويدرك نتنياهو أن النقلة الأهم في السياسة الأميركية حول التسوية تكمن في شطب المفاوضات الثنائية مع الجانب الفلسطيني عبر الحديث عن «الحل الإقليمي» الذي يتيح لحكومة الاحتلال إغلاق باب الحديث عن الاستحقاقات السابقة.
وتتيح سياسة إدارة ترامب لنتنياهو تطبيع علاقات الاحتلال مع عدد من الرسميات العربية مجانا، بل ويكسب تنفيذ خطته في تصفية القضية الفلسطينية على نفقة المطبعين وغيرهم، وهذا كله يعزز بالنسبة إليه موقعه على رأس المشهد السياسي والحزبي في إسرائيل ويزيد من فرص فوزه في انتخابات الكنيست القريبة، ويقلل من تداعيات ملفه القضائي مع تصاعد الحديث عن إمكانية توجيه تهم مباشرة إليه بالفساد قبل الانتخابات واستغلال ذلك من قبل خصومه ومنافسيه.
  بالمقابل، يرى الفلسطينيون في «صفقة العصر» مشروعا أميركيا ـ إسرائيليا لتصفية حقوقهم الوطنية في ظل تغول الاستيطان واتساع حملات التهويد. وما تشهده الأراضي الفلسطينية المحتلة وخاصة القدس من مواجهات مع الاحتلال تؤشر بوضوح على أن الاحتقان السياسي والشعبي الفلسطيني بلغ مستوى يفتح على اندلاع انتفاضة شاملة تقلب الطاولة في وجه مهندسي الصفقة.
لكن ذلك يحتاج من الحالة السياسية الفلسطينية دورا  في دعم المقاومة الشعبية وتمكينها برنامجيا وميدانيا، كما يتطلب من القيادة الرسمية الفلسطينية القيام بخطوات على الأرض تفضي إلى التحرر من قيود أوسلو السياسية والأمنية والاقتصادية عبر تطبيق قرارات المجلسين الوطني والمركزي وقرارات اللجنة التنفيذية بشأن تحديد العلاقة مع اسرائيل، بدءا من وقف التنسيق الأمني مع الاحتلال، مرورا بسحب الاعتراف بدولة اسرائيل، وانتهاء بوقف العمل باتفاق باريس الاقتصادي والبدء بعمليات فك ارتباط بسلطات الاحتلال وإنهاض المقاومة الشعبية باتجاه انتفاضة شاملة تتحول إلى عصيان وطني يدفع الادارة الأميركية لمراجعة حساباتها والمجتمع الدولي لتحمل مسؤولياته على أساس القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية وفي إطار مؤتمر دولي برعاية الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن، لتحقيق تسوية سياسية شاملة ومتوازنة تجسد حقوق الشعب الفلسطيني في العودة والاستقلال وإقامة الدولة الفلسطينية على كامل الأراضي الفلسطينية المحتلة بعدوان حزيران/يونيو 1967 وعاصمتها القدس الشرقية.
من دون ذلك، سيواصل المشروع الأميركي ـ الإسرائيلي تقدمه على الأرض، وتتواصل حملات التهويد وتغول الاستيطان وجرائم القتل والاعتقال. وقد أكدت التجارب السابقة أن الموقف السياسي والشعبي الفلسطيني الموحد في السياسة والميدان كان دائما العامل الحاسم في إفشال المشاريع التي استهدفت تصفية القضية والحقوق الفلسطينية، مهما بلغت الجهات التي تقف وراء هذه المشاريع من العتي .. والغطرسة.

أضف تعليق