29 آذار 2024 الساعة 04:02

..آفاق الحالة الفلسطينية .. وأزمتها(1)

2019-01-23 عدد القراءات : 577
 (1)
■ في عودة سريعة إلى مصادر الرأي العام، كالمقالات اليومية في الصحف الفلسطينية والعربية ومنصاتها الإلكترونية، وإلى وسائط التواصل الاجتماعي، التي تعكس آراء الأفراد والجهات المهتمة والمتابعة، يتبين لنا، أن الحالة الفلسطينية، في واقعها الراهن لا ترضي أحداً، في ما تعانيه من أزمات وتعقيدات، وانفجارات سياسية واجتماعية، تؤكد أن الأمور ليست على ما يرام، وأن الأمر بات بحاجة ملحة إلى حالة إسعافيه سياسية شاملة، تعيد بناء الصرح الفلسطيني وترميمه، وقد جبلت تربته بدماء عشرات آلاف الشهداء والجرحى والمعاقين، والمفقودين، وأكثر من مليون أسير عبروا زنازين الاحتلال، وبعض الزنازين العربية.
فلا أوضاع منظمة التحرير الفلسطينية، مرضية لأحد، في ظل الخلافات السياسية البرنامجية الكبرى، خاصة بين القيادة الرسمية، والجبهتين الديمقراطية والشعبية. وفي ظل تعطل مؤسساتها، كاللجنة التنفيذية، وحل بعض أهم دوائرها المهمة، كالدائرة السياسية، وإخراج دائرة المغتربين من تحت صلاحياتها، وتحويل الصندوق القومي الفلسطيني إلى مؤسسة تدار بالتعليمات الفوقية، وليس من خلال مجلس إدارة منتخب من قبل المجلس الوطني. فضلاً عن أن عشرات القرارات ذات الصلة بإعادة تحديد العلاقة مع دولة الاحتلال مازالت معطلة.
ولا أوضاع السلطة الفلسطينية مرضية لأحد. فمجلس وزرائها شبه مشلول، يفتقر إلى استراتيجية سياسية اجتماعية عليا، من خلالها يدير الشأن العام، خاصة وأنه يهتدي في إدارة القضايا الاجتماعية والاقتصادية، بتوجهات صندوق النقد الدولي، ما يعزز ارتباط الاقتصاد الفلسطيني بالاقتصاد الاسرائيلي، وتبعيته له، وما يعزز، في الوقت نفسه، انحياز السياسات الرسمية الاجتماعية لصالح كبار رجال المال والأعمال، على حساب الفئات الدنيا، في ترجمة فاقعة للتحالف غير المقدس، بين البيروقراطيات العليا، في السلطة، وبين الفئات العليا من رجال المال والأعمال، التي بنت أوضاعها، استراتيجياً، في رهان على إدامة الوضع الراهن، تحت سقف أوسلو، وفي ظل استحقاقاته، وضد أي تغيير قد يخلخل الوضع، ويعيد بناءه، ما يعرض مصالحها الفئوية للخطر، في تغليب فاقع للمصالح الطبقية الضيقة، على حساب المصالح الوطنية العامة. كذلك تبدو قضية الانقسام، في بعض اللحظات، وكأنها «أم القضايا» بين الطرفين، فتح وحماس، وتدور المعارك بينهما، وكأنها «أم المعارك» ما يغرق الحالة الوطنية في سوداوية، تدفع بفئات شديدة التأثر بتداعيات الانقسام، والاحتراب، نحو شواطئ اليأس برمالها المتحركة.
وهذه أمور، وقضايا، ربما تحتاج إلى رؤية أبعد مما هو ظاهر على رأس الهرم.
(2)
يؤكد المراقبون أن الإعلان عن «صفقة ترامب» حلاً لقضايا الصراع في المنطقة، فلسطينياً، وإقليمياً، أحدث انقلاباً في المعادلة السياسية في المنطقة، ورسم آليات جديدة لمعالجة الصراع، بمنطق وأسلوب أميركيين جديدين، تفاعلت معه أطراف عربية وإقليمية، وانساقت مع توجهاته. غير أن السلطة، وإن سارعت إلى رفضه، بعد الإعلان عن القدس عاصمة لإسرائيل، لم تدفع باتجاه إعادة صياغة استراتيجيتها، خاصة في الميدان، لتجابه تداعيات ومفاعيل الخطوات التطبيقية للصفقة.
حاولت السلطة أن تطرح «بديلها» (هي) «لصفقة ترامب» لكن هذا البديل لم يتجاوز حدود محاولة إحياء اتفاق أوسلو، الذي تجاوزته حكومة الاحتلال، بإجراءاتها الميدانية، وتطبيقاتها، لما تراه (هي) «حلاً دائماً» يخدم مصالحها، دون الحاجة للوصول إلى اتفاقات جديدة مع الجانب الفلسطيني.
وهكذا تكون حكومة نتنياهو قد تعاملت مع «قضايا الحل الدائم» تماماً، كما تعاملت إدارة ترامب مع ملفات الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي.
إدارة ترامب حسمت موقفها من الملفات (القدس، الاستيطان، اللاجئون، مستقبل الكيان الفلسطيني..) بإعلانات من طرف واحد، أرادتها ملزمة للفلسطينيين، وللأطراف الإقليمية المعنية بالصراع.
وحكومة نتنياهو، من جانبها، اندفعت نحو تطبيقاتها لقضايا الحل الدائم تحت غطاء صفقة ترامب، وبدعم من إدارته، وبالتالي انتفت الحاجة، إسرائيلياً، وأميركياً، إلى مفاوضات جديدة، وهو ما أعلن عنه الرئيس محمود عباس في القاهرة أمام الإعلاميين، حين أكد أنه لم يعد هناك حاجة لمفاوضات، إذ لم يعد هناك ما يمكن التفاوض عليه (الشروق المصرية7/1/2019). وهو ما أدى إلى انقطاع شبه تام للعلاقات بين السلطة والولايات المتحدة، وكذلك مع حكومة نتنياهو، إلا ما يدخل في التزامات واستحقاقات اتفاق أوسلو، خاصة التنسيق الأمني وغيره. وهو ما يشعر السلطة الفلسطينية أنها تكاد تقف خارج المعادلة السياسية الاقليمية، كما تنظر إلى تطبيقات «صفقة ترامب» وسياسات نتنياهو باعتبارها ضغوطاً ثقيلة عليها، لا يمكنها البقاء طويلاً إزاءها مكتوفة الأيدي. لكنها في الوقت نفسه، وفي ظل استحقاقات أوسلو والتزاماته، وفي ظل استحقاقات سياسية أخرى، تجد نفسها في موقع لا تتوفر فيه، ولديه الطاقات والآليات للمواجهة الميدانية، ولطرح بدائل، أبعد من أوسلو، الذي مات، لكن مازالت جثته حتى الآن تضغط بثقلها على الحالة الفلسطينية.
(3)
في محاولة من السلطة لإيجاد ثغرة في جدار أوسلو، نحو إحياء شكل آخر من المفاوضات، وفي سياق البحث عن موقف «وسطي» بين أوسلو، والتزاماته، وبين قرار المجلس الوطني (30/4/2018) وما سبقه من دورتين للمجلس المركزي، في فك الارتباط بالاقتصاد الإسرائيلي، دعت السلطة الفلسطينية الجانب الإسرائيلي، للبحث في تعديلات بروتوكول باريس. وطبقاً لآليات العلاقة بين السلطة وبين سلطات الاحتلال، يفترض أن تتوجه السلطة عبر وزيرها للشؤون المدنية  (ضابط الارتباط مع الاحتلال) حسين الشيخ، إلى وزير الدفاع الإسرائيلي (آنذاك) أفيفدور ليبرمان، باعتباره «المرجع الأعلى» في إدارة الشأن العام في مناطق السلطة.
ما سمعه الجانب الفلسطيني من ليبرمان أثار الدهشة، وشكل صدمة، زادت الأمور تعقيداً، ورفعت سدوداً جديدة ، أمام أية محاولة «لتدوير الزوايا». قال ليبرمان «نحن في إسرائيل لم نعد نعترف لا ببروتوكول باريس الاقتصادي، ولا بالتزاماته. نحن نفعل ما يخدم مصلحة إسرائيل». ولعل هذا ما يفسر، للجانب الفلسطيني الرسمي، كيف تلجأ سلطات الاحتلال، على سبيل المثال، إلى مصادرة إيرادات المقاصة، في مخالفة صريحة لبروتوكول باريس، تحت ذريعة تسديد فواتير السلطة لدى شركة كهرباء إسرائيل. ولعل هذا أيضاً، ما يفسر، كيف أن سلطات الاحتلال لا تتوقف عن التهديد بمصادرة أموال المقاصة، ما يعادل منها رواتب وتعويضات أهالي الشهداء والأسرى. ولعل هذا، أيضاً، وأيضاً ما يفسر كيف أن سلطات الاحتلال لا تتوقف عن التهديد بمصادرة أموال المقاصة لصالح دفع رواتب موظفي السلطة في قطاع غزة، «خوفاً من انفجار الأوضاع الاجتماعية في القطاع».
كذلك اعترف ليبرمان بصراحة، أن حكومته (حكومة الاحتلال) لم تعد تلتزم اتفاق أوسلو بكل عناصره. وأن الاتفاق مازال ملزماً لجانب واحد، هو الجانب الفلسطيني دون غيره. وخلاصة الأمر، كما وصفه ليبرمان، ليس هناك آليات ملزمة لإسرائيل، في الشأن الاقتصادي، أو في الشأن الأمني [احترام المنطقة (أ) وعدم تجاوزها، أو الاعتراف بدور السلطة في المنطقة (ب)..] فإسرائيل تعتبر نفسها طليقة اليدين، لا تلتزم ما سبق من اتفاق، ولن تلتزم ما يمكن التوصل إليه في أية مباحثات لاحقة. وأن على الفلسطينيين ــــــ كما قال ليبرمان ـــــــ إعادة ترتيب أوضاعهم على هذا الأساس.
(4)
يفترض بمنظمة التحرير الفلسطينية، في المرحلة بالذات، أن تتميز بالتماسك الداخلي، القائم على التوافق السياسي، في إطار البرنامج الوطني، كما يتم إعادة التأكيد عليه في كل المحطات الرئيسية، وآخرها، كما بات معلوماً، المجلس الوطني في( 30/4/2018)، الذي أعاد رسم السياسة الفلسطينية، كما تتبناها م.ت.ف، في مواجهة «صفقة العصر» (صفقة ترامب) وسياسات حكومة نتنياهو.
رسمت المؤسسة الوطنية، في جو من التوافق العام، مواقفها من أوسلو والتزاماته واستحقاقاته، ومن العلاقة مع دولة الاحتلال، ومن صفقة ترامب وخطواتها التطبيقية. كما رسمت آليات لتطبيق هذه المواقف، والسياسات،  إن في الميدان، عبر المقاومة الشعبية والانتفاضة، أو في المجال السياسي، في المحافل الدولية، (الأمم المتحدة، ومجلس حقوق الإنسان، والجنائية الدولية، والعدل الدولية.. وباقي مؤسسات الأمم المتحدة ومنظماتها الأخرى) وبناء عليه، ووفقاً لقرارات المجلس الوطني (30/4/2018) ودورتي المجلس المركزي قبله، يمكن القول إن «صفقة ترامب»، وسياسات نتنياهو، لم تكن هي نهاية المطاف، ولا نهاية الكون، ولا تملكان الكلمة الأخيرة. الكلمة الأخيرة، هي التي صاغتها م.ت.ف: «طي المفاوضات الثنائية تحت  السقف الأميركي، والذهاب إلى المقاومة، في الميدان، وفي المحافل الدولية». وعلى هذه القاعدة، كان يمكن للحالة الفلسطينية أن تعيد صياغة المعادلات، وأن تقلب الطاولة، وأن تعيد خلط الأوراق، ليس في مجال الصراع الفلسطيني ـــــ الإسرائيلي، فحسب، بل وعلى الصعيد الإقليمي أيضاً، حيث سيضطر الكثيرون، في ظل «المعادلة الفلسطينية الجديدة»، أن يقفوا ويفكروا طويلاً، وربما طويلاً جداً.
كذلك كان ترامب، وكان نتنياهو، سيتوقفان هما أيضاً، ويفكران طويلاً، إذا ما اشتعلت نيران حرب الاستقلال الفلسطيني، في أنحاء الضفة والقدس وقطاع غزة، وتردد صداها في المهاجر والشتات، وداخل قلب الكيان، في ظل الوجود الفلسطيني الناهض بأحزابه القومية والديمقراطية واليسارية. وكان يمكن أن تستعاد اللوحات الفلسطينية التي رسمها الفلسطينيون بدمائهم، في سنوات نهاية الثمانينات، وأوائل الألفية الجديدة، في الانتفاضتين الأولى والثانية.
لكن الانقلاب على قرارات المؤسسة الوطنية وتعطيلها، قطع الطرق على الاحتمالات الكبرى والتاريخية.
لا شك في أن ما تشهده المناطق المحتلة من حراك، هي مقاومات متنقلة في المكان والزمان: من داخل زنازين الأسرى، إلى حرب السكاكين، والدعس بالسيارات، وإطلاق النار، واقتحام المستوطنات، ومقاومة توسيع الاستيطان، والاشتباك مع دوريات الاحتلال ومسيرات العودة وكسر الحصار. لا يختلف اثنان في أنها مقدمة لمقاومة أشمل وأوسع، لم تختمر الشروط الذاتية للقوى السياسية لإطلاقها على أوسع مدى. من أهم هذه الشروط قيام الهيئة الوطنية العليا، تعبيراً عن قيام ائتلاف وطني شامل، أساسه قرارات المجلس الوطني والمجلسين المركزي (الدورتان 27 و28) ونظرة إلى واقع م.ت.ف، بتركيبتها الحالية، يلاحظ أن الوضع الداخلي تسوده الخلافات، وأسبابها أولاً: تعطيل قرارات المجلسين المركزي والوطني، وثانياً: تجاوز أسس وآليات وشروط ومبادئ الائتلاف والشراكة الوطنية، وثالثاً: تعطيل آليات إصلاح المؤسسة وتوسيع قاعدتها لتشمل القوى الفلسطينية كافة، على أسس البرنامج الوطني، سياسياً، والديمقراطية تنظيمياً.
وكانت خطوة الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، في مقاطعة دورتي المجلس المركزي (الـ29 والـ 30)، وقبل ذلك كلمة كتلتها البرلمانية في دورة المجلس الوطني (30/4/2018) مؤشراً شديد البلاغة عن عمق الخلافات السياسية داخل م.ت.ف، وعمق الأزمة السياسية، التي لا إمكانية لمعالجتها إلا بالاحتكام إلى ما تمّ التوافق والاتفاق عليه. ولا يقل أهمية عن هذه الإشارة، مقاطعة الجبهة الشعبية لدورة المجلس الوطني، ووجودها خارج اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير. وكذلك مقاطعة «المبادرة الوطنية» بقيادة مصطفى البرغوثي لدورتي المجلس المركزي الأخيرتين. فضلاً عن وجود الصاعقة والجبهة الشعبية – القيادة العامة- خارج الإطار حتى الآن؛ وكذلك مقاطعة شخصيات وطنية وازنة دورتي المجلس المركزي.
وكما أوضح مراقبون، فإن مقاطعة الجبهة الديمقراطية، بشكل خاص، أحدثت ضجة واسعة في الوسط الفلسطيني، نظراً لخصوصية وضع «الديمقراطية» كأحد الأعمدة الكبرى في إعادة بناء م.ت.ف عام 69، وباعتبارها صاحبة البرنامج المرحلي، الذي عملت على تطويره ميدانياً، بما في ذلك التوافق على استعادة الوحدة الوطنية في نيسان (ابريل) 1987، وتشكيل القيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة الأولى، والتوافق على المبادرة الفلسطينية وإعلان الاستقلال (15/11/1988) وكل الخطوات اللاحقة، إلى أن حدث الانقلاب  السياسي في 13/9/1993 باتفاق أوسلو. ومع ذلك واظبت الجبهة تمسكها بالمنظمة، ورفض المساس بشرعيتها حتى في أحلك الظروف، لذلك يرى المراقبون أن الحالة التي تعيشها المؤسسة الوطنية قد دخلت مرحلة الخطر، ولا يمكن أن تستمر الأمور على ما هي عليه، ولا بد من خطوات كبرى لدرء هذا الخطر.■
[في العدد القادم حلقة جديدة]

أضف تعليق