18 نيسان 2024 الساعة 20:14

مجرّبو الألم: حصار غزّة المعرفيّ

2018-12-03 عدد القراءات : 680
كتب كريم أبو الروس- رفح
يعاني الشباب الفلسطينيّون في غزّة أزمات مركّبة، يكاد وصفها يصل أحيانًا إلى الفجيعة، أو ربّما اللعنة الأبديّة، أو ماراثون للمتألّمين؛ فالحياة هنا في غزّة ليست عاديّة على الإطلاق، وليست استثنائيّة في الوقت ذاته، هي بين بين؛ أي بين ممارسة الحياة الروتينيّة، واستثنائيّة الأحلام والطموحات الهائلة الكبيرة، وعلى الرغم من صعوبات الحياة ومن انعدام الآفاق؛ إلّا أنّك تجد بركانًا معرفيًّا وثقافيًّا وبحثيًّا وسياسيًّا، يجري في العقول والأفئدة.
لم يكن الحصار على غزّة ناجحًا في إقصاء العقل، ومحو المعرفة، إلّا أنّه بالضرورة وضع لها حدودًا، وأغلق عليها بعض المنابع، وحجّم من قدرات كثيرة كانت ستبني وطنًا حقيقيًّا للإنسان الفلسطينيّ.
 عمّ يبحث الغزّيّ؟
إنّ الحالة الّتي يعيشها الغزّيّ - ووصف الغزّيّ هنا ليس محاولة لفصله عن كلّه الوطنيّ، إنّما لخصوصيّة حالته المعيشيّة والنفسيّة والسياسيّة والثقافيّة - تلحّ علينا أن نسأل سؤالًا يبدو في بادئ الأمر عاديًّا، إلّا أنّه في الحقيقة يبحث في أعماق المجتمع الغزّيّ: كيف نحرّر الفلسطينيّ في غزّة من حصاره المعرفيّ؟
إنّ الإجابة عن هذا السؤال تحتّم علينا طرح ثلاثة أسئلة تسبقها، وهي أسئلة هدفها بالضرورة تعريفه موجودًا، وتفسير هويّته إنسانًا، وطموحاته وقضيّته الفلسطينيّة العادلة شعبًا. تتمثّل هذه الأسئلة الثلاثة في: “مَن نحن؟ ماذا نريد؟ إلى أين نحن ذاهبون؟”، والإجابة عنها هي ذاتها إجابة عن السؤال الّذي سيوصلنا إلى تحرير الغزّيّ من حصاره المعرفيّ، “مَن نحن؟” يجب ألّا نجيب عن هذا السؤال بمعزل عن هويّته الفلسطينيّة الأصيلة التاريخيّة، و”ماذا نريد؟” على الإجابة أن تكون – مثلًا - وطنًا حرًّا عادلًا، يعيش الإنسان فيه بكرامة وطمأنينة، و”إلى أين نحن ذاهبون؟” هذا السؤال ذاته؛ إذ لو سألته أيّ إنسان تقابله في غزّة، لنظر إليك باستغراب ودهشة، ثمّ سخر، وربّما ضحك عاليًا.
إنّ تحرير الإنسان الغزّيّ من حصاره المعرفيّ؛ يعني بالضرورة تحريره من فكرة الألم، فكرة المتألّم على الدوام، فكرة المستلذّ بالعذاب الواقع عليه. لدى الغزّيّين كلّ دوافع الانفجار، إلّا أنّهم لا ينفجرون في وجه أحد؛ وربّما يرجع ذلك إلى أنّهم وصلوا إلى مرحلة يعرّفها دافيد لوبرطون في كتابه “تجربة الألم”، بأنّها “مرحلة الألم بوصفه متعة” (ص 183).
 لعنة التكرار
يسألني صديقي الّذي يعيش في العالم الخارجيّ: “كيف تصف حياتك في غزّة؟”، إنّه لمن المؤلم أن تجيب عن هذا السؤال، على أنّك ستفكّر كثيرًا في الإجابة، إلّا أنّني أجبته: “غزّة سجن بلا سقف”.
 أتخيّل كيف يعيش الإنسان حياته سنين طويلة، وهو يمشي في الشوارع نفسها، ويسمع الكلمات نفسها الّتي تتردّد على مسامعه طوال الوقت، ويرى الناس أنفسهم، ويشتري من المحالّ ذاتها، ويرى الجدران والأرصفة والعربات نفسها! إنّها لعنة التكرار، تكرار كلّ الأشياء؛ أي أنّك تعيش حياة واحدة بلون واحد، بأصوات واحدة، بوجوه واحدة، بثقافة واحدة، برؤية واحدة للحياة؛ فكيف ذلك لو كنت كاتبًا؟ أو مبدعًا؟ أو موسيقيًّا أو فنّانًا؟ إنّها مأساة للفنّان الفلسطينيّ في غزّة؛ فليس لديه بصيرة لتنمية إبداعه، ولسكب الخيال في عقله وقلبه، مكبَّل طوال الوقت، يسمع الانفجارات من حوله، يرى صور الدماء والأشلاء، وصوت الطائرات، ممنوع من السفر، وممنوع من التعبير عن رأيه؛ فهو - بوصف العالم - شخص غير مرغوب فيه.
يعيش الكاتب تحديدًا في غزّة أزمة اغتراب وتهميش كبيرة؛ فهو من جهة في مجتمع يعامله على أنّه صاحب أفكار دخيلة، وليس باستطاعته التعبير عن أفكاره بحرّيّة في ظلّ واقع سياسيّ صعب، وفي ظلّ حصار يمنعه من التواصل مع العالم الخارجيّ، ليس بمقدوره أن يسمع أصوات الآخرين أيضًا.
 معاناة/ إبداع
قبل بضعة أسابيع، اجتمعت مع شعراء وكتّاب شباب من غزّة، عرضنا قصائدنا ونصوصنا على بعض الكتّاب العرب والفلسطينيّين في الخارج؛ رغبة منّا في نقدهم ونصائحهم وبعض الإرشادات، ولإيصال الأدب المنتج في غزّة إلى خارجها أيضًا، كنّا مسرورين بهذه التجربة؛ فهي الأولى من نوعها، ولأنّنا لم نسافر لنشارك في معارض وندوات وأمسيات خارج غزّة، إلّا أنّنا بُهتنا بتعريف أحدهم لما ننتجه من أدب بأنّه “أدب سجون”، وآخرون قالوا إنّ النصوص تعجّ بالموت والحصار، والسواد والعتمة، ومفردات الألم والعذاب. ودار نقاش كبير وحادّ بين الحاضرين، هل فعلًا نحن نتلذّذ بعذابنا؟ أو أنّ الكاتب ابن لبيئته؛ فإنّ ما ينتج عن هذه البيئة من أدب يكون مشابهًا لحالتها؟ ليس من الصعب القول إنّ غزّة تعيش تجربة فريدة وخاصّة لا مثيل لها؛ فإنّك لو قرأت أسماء الكتب الصادرة عن دور النشر في غزّة، لعرفت ما غزّة، وكيف يخلق الشباب فيها أدبًا من المعاناة والظلام، وإبداعًا من الوحشة والعتمة، وحرّيّة من القهر والقمع، وتحرّرًا معرفيًّا من الحصار، وأحلامًا مشعّة من الانكسار؛ ففي غزّة الكثيرون من مجرّبي الألم، أصفهم هكذا لأنّهم حقًّا يجرّبون الألم، كلٌّ بطريقته وأسلوبه وباختصاصه وموهبته، تجربة الألم هنا ليست طوعيّة؛ إنّها جبريّة، تُفرض عنوة على كلّ إنسان على مدار الساعة.

أضف تعليق